نشأة الدولة في بلاد المشرق العربي

20 مارس 2023
نشأة الدولة في بلاد المشرق العربي

زيدان كفافي

تحدثنا في الخاطرة السابقة حول أصل التمدن والمدينة، ورأينا أنه من اللازم استكمال الحديث في هذه الخاطرة حول نشأة الدولة في المشرق العربي، خاصة إذا ما علمنا أن المدينة هي المكان، وأهلها هم صنّاع الدولة. وكما كانت الخاطرة السابقة مأخوذة بتصرف عن كتابنا أصل الحضارات الأولى المنشور عام 2005م عن طريق دار القوافل للنشر في الرياض، فإن مصدر المعلومات الواردة في هذه الخاطرة هو الكتاب نفسه.

وإذا كان معبد المدينة هو الأساس في نشوء النظام السياسي المعروف باسم المدينة-الدولة أو الدولة – المدينة، فإن تحالف مجموعة من هذه المدن أدى بالتالي إلى نشوء الدولة الوطنية، كما سنرى أدناه.

وإذا كانت بلاد الشام هي الأصل في بداية المجتمعات الزراعية في بلاد الشرق الأدنى القديم، فإن نشوء الدولة تم أولاً في بلاد الرافدين، ووادي النيل. إذن كيف تم هذا ؟ والجواب يأتي من جنوبي وادي الرافدين ، بالتحديد وذلك لوجود المصادر الكتابية التي زودتنا بمعلومات حول هذه الحالة. 

من المعلوم أن هناك معلومات كثيرة ومتوفرة للباحثين حول نشأة الدولة في كل من بلاد الرافدين ومصر، لكن وللأسف لم يعط العلماء أي اهتمام لبحث هذا الأمر في المناطق الأخرى لبلاد الشرق الأدنى القديم.  وربما يعود السبب في هذا إلى تأخر الناس في البلدان الأخرى في معرفة الكتابة،  مما أدى إلى غياب مصدر أساسي للمعلومات المتعلقة بذلك.  ومع أننا نؤكد ما ذكرناه سابقًا بأن المجتمعات البشرية في بلاد الشام قد وصلت إلى مرحلة المجتمع المعقد مع نهاية الألف السابع قبل الميلاد، لكن يبدو لنا أن عملية التحضر والتمدن والوصول إلى مرحلة الدولة كان لا بد لها أن تنضج على ضفاف الأنهار الكبيرة.  وبناء عليه نقدم أدناه معلومات موجزة عن نشوء الدولة في وادي الرافدين.

بلغت المجتمعات البشرية التي سكنت مناطق بلاد الشرق الأدنى القديم قمة ازدهارها الحضاري مع نهاية الألف الرابع وبداية الألف الثالث قبل الميلاد،  أي عند التحول من مجتمع القرية  إلى مجتمع المدينة،  وقد رافق هذا التحول مجموعة من الاختراعات مثل ظهور المؤسسات الاجتماعية والكتابة.  ازدهرت الحضارة السومرية والأكادية خلال الألف الثالث  قبل الميلاد في وادي الرافدين،  وأخذت مدن المعابد بالتحول إلى وحدات سياسية مستقلة، يرأسها  كهنة المعبد.  لكن وفي فترة  لاحقة سيطرت السلطة الزمنية أي غير الدينية  على الحكم في المدن مما أدى إلى ظهور اتحادات كونفيدرالية فيما بين بعض المدن تحولت مع مرور الزمن (النصف الثاني من الألف الثالث ق.م) إلى دول وطنية.  

كذلك تأكدت في النصف الأول من الألف الثالث قبل الميلاد مع ظهور السومريين في هذه المنطقة مظاهر المجتمع المركب مثل التجارة الخارجية ومضاعفة الإنتاج والتعدين والحيوانات التي تجر العربات وقنوات الري والفنون الزخرفية والحلي والقوانين والحروب.  إن هذه التحولات بدأت على الأغلب في شمالي وادي الرافدين ولكنها نضجت في جنوبه. ولم ينقص السومريين من مظاهر حضارية وتمدن إلاّ الوحدة السياسية وتشكيل الدولة الموحدة.  ولم تبدأ الدولة الموحدة في وادي الرافدين إلاّ على يد مجموعة سامية هم الأكاديون.

إن ظهور الدولة (National State) بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، أي وجود حكومه تحكم الناس هو محصلة لمجموعة من التطورات الهامة والتي استغرقت مدة طويلة من الزمان تمثل التاريخ السياسي لدول الشرق الأدنى القديم منذ ظهورها في بداية الألف الثالث قبل. وتميزت هذه بنظام دويلات المدن التي تتصارع مع بعضها بعضاً، ولم تتحد إلاّ عند وجود أو ظهور أسرة قوية أو حاكم قوي يوحدها ويحكمها.  حاول كثير من العلماء وضع تعريف للدولة وأكدت جميعها على عدة مظاهر لها ،  من أهمها:

  1. تركيز على الاقتصاد والقوة السياسية.
  2. وجود تنظيمات سياسية وحدود ثابتة.
  3. وجود مؤسسات لها حرية الوصول للمصادر الطبيعية في الدولة.
  4. القدرة على استخدام القوة.

ويعرّف بعض العلماء الدولة بما يلي: ” مجتمع يحكم تنظيم أمور حياته إدارات لكل منها دور محدد مناط بها بموجب تنظيم ذاتي وهو الذي يحكم صنع القرار، ويتكون من ثلاث مستويات هرمية على الأقل  تحدد صلاحيات كل مؤسسة إدارية بحيث يمكن إدارة التنظيم والحفاظ عليه وتنفيذ قراراته”. وفي العادة فإن هذه القرارات تعلن للجماهير من خلال مجموعة من الأشخاص الإداريين والبيروقراطيين.  وتصدر القرارات على شكل قوانين أو دساتير مدعمة بمواقف دينية وثقافية وشخصية.  وإن تنفيذ هذه القوانين يعتمد على المقدرة على استخدام القوة.  وعلى أية حال فإن  الاستقرار الأمني والسياسي في أية دولة يعود إلى ازدهار تجارتها وصناعتها وإلى ازدهار الآداب والفنون فيها.

ويبدو لنا أن العلماء الذين قدموا تعريفات للدولة تأثروا كثيراً بالأسس والمقومات التي تقوم عليها الدول في الوقت المعاصر.  وبنظرنا أن الأمر في الألف الثالث قبل الميلاد ربما يكون قد تشابه مع ما هو معاصر لنا، لكنه كان أقل تعقيدًا، خاصة إذا علمنا أن مجتمع الدول الحديثة يتكون من مجموعة كبيرة من الناس  ينتمون لأعراق وأجناس متعددة،  ونتج هذا لسهولة التواصل ووسائل الإتصال بين الناس، على عكس ما كان عليه الحال في العصور القديمة. كذلك فليس من الضرورة بمكان أن تتمتع جميع الدول قديماً وحديثاً  بنفس القدرات السياسية والعسكرية، فهي متفاوتة بين دولة وأخرى. لقد تطورت وقويت كثير من الدول فخرجت خارج حدودها لتمد سيطرتها على ما جاورها من دول فكانت أولى الأمبراطوريات العالمية هي “الأمبراطورية الأكادية” التي ظهرت في بلاد الرافدين خلال النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد.

وتدل الأمور المدرجة أدناه وبكل وضوح على نشوء المؤسسات الإدارية عند الدولة الأولى  في وادي الرافدين وهي: 

  1. زيادة التنظيم في القوة العسكرية.
  2. ظهور قادة وحكام يعتمدون على المؤسسات المدنية في حكمهم، لكن كانوا مقبولين لدى المؤسسة الدينية.
  3. زيادة حجم المؤسسات البيروقراطية الحكومية.
  4. زيادة حجم التبادل التجاري الداخلي والخارجي.

كان حكام الدول الأولى في بلاد الرافدين قد خرجوا من المؤسسات المدنية ذات الارتباط بالمؤسسة العسكرية، لكنهم لم يكونوا بأي حال من الأحوال السلطة القوية الوحيدة في المجتمع بل كان هناك سلطة رجال الدين الذين كانوا يشكلون دائمًا تحديًا للسلطة الزمنية وربما كان لأصحاب الثروات الزراعية أو التجارية طرق بارعة في التخلص من حكم الحاكم.  وقد حدث في كثير من الأحيان في بلاد الرافدين أن اتفقت السلطة العسكرية والدينية والأغنياء على تغيير الحاكم وتعيين آخر بدلاً عنه، وفي أحيان أخرى كانت هناك أسباب أدت إلى صراعات نشبت بينها للسيطرة على الحكم لأن لكل منها أهدافه وطموحاته المختلفة عن الأخرى.  على أي حال ، نقدم أدناه المراحل التي مرت بها بلاد المشرق  عامة، والرافدين خاصة  حتى وصلت إلى نشاة الدولة الوطنية.

  • دولة مدن المعابد:

 ظهر في  بلاد الشرق الأدنى القديم وخاصة بجنوبي وادي الرافدين عدد من المدن والتي يعتقد العلماء أن السبب الرئيس لوجودها هو بناء معابد فيها. ويرون أيضًا أنه ومع ازدياد أعداد الناس في مستقراتهم خلال الألف السابع  قبل الميلاد وتعقد أمور الحياة أصبح لا بد من وجود سلطة تحكمهم، فكان الدين وكان المعبد، وأفضل مثال على هذا قرية عين غزال في الأردن.  لكن وحيث أن وضع قرى بلاد الشام الأولى ، بما في ذلك عين غزال،  تعوزه المعلومة المكتوبة بسبب عدم معرفة الكتابة في ذلك الوقت، ومع بداية الكتابة في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد  في جنوبي الرافدين  أصبحت هذه المنطقة هي الأساس في دراسة نشوء المدينة والدولة في المشرق. 

من هنا كان لا بد من وضع إطار لهذه الديانات، أي تعلم وتعليم كيفية ممارسة الطقوس الدينية والذي وضح بشكل كبير خلال بداية الألف الثالث قبل الميلاد وفي الديانات السومرية بالذات.  حيث وضعت الآلهة القوانين وهي التي كانت مسؤولة عن المعابد والمدن أيضًا.  وأن الآلهة هي التي تعيّن لها ممثلين من بين الناس يشرفون على طبيعة النشاطات اليومية التي يقوم بها بني البشر.  لذا كان هناك كهنة المعبد يأتمرون بإمره شخص واحد أطلق عليه اسم (En) .

وبما أن الزراعة كانت المصدر الرئيس للعيش  بجنوبي وادي الرافدين وأن ناتج المحصول الزراعي السنوي يعتمد على مياه الأمطار ويختلف من سنة لأخرى، جاءت معظم الديانات مرتبطة بآلهة الخصب والقوى الطبيعية لأخرى.  ويختلف دور الآلهة وأهميتها من مدينة لأخرى ومن وقت لآخر. وكان كبير الآلهة السومرية هو الإله آنو (Anu) ملك السماء والذي أعطى المَلَكية لبعض الأشخاص وكان معبده الرئيس في مدينة الوركاء.  وأما زوجته الآلهة إنانا (Inanna) ملكة السماء فقد كانت معبودة أيضاً في مدينة الوركاء، وعلى أية أمر، فإن من غير المعروف حتى الآن من الذي كان أهم من الأخر في الديانة السومرية هل هم الآلهة أم الإلهات؟ بكلمة أخرى أن الإله هو الذي يعين الحاكم، وكان الكاهن (صاحب المعبد) أي صاحب السلطة الدينية هو  الحاكم على المدينة . لقد كان الكاهن هو ممثل الإله على وجه الأرض فينفذ رغباته ويفسر للناس ما يريده.  كما كانت هناك الأعياد والحفلات الدينية السنوية والتي يحضرها جميع الناس ويشرف عليها كهنة المعبد.

إن كثيرًا من عناصر الديانة السومرية قد أصبحت جزءًا من طقوس وعبادات الديانات الأخرى، فمثلاً بناء المباني المخصصة لعبادة الآلهة قد تكرر في جميع الديانات اللاحقة كما هو الحال بالنسبة لبعض الأساطير السومرية الأخرى مثل الطوفان.

وإذا كان نشوء الديانات والمعابد قد ارتبط مع وجود الزراعة، فإن المعبد ممثلاً بالكهنة قد لعب دورًا كبيرًا في النشاطات الاقتصادية والسياسية خلال نهاية الآلف الرابع قبل الميلاد في بلاد الرافدين. إذ أصبح المعبد هو المكان الذي يجمع فيه المحصول الزراعي السنوي وهو المسؤول عن كيفية إعادة توزيعه بين الناس.  كما ازداد تدخل رجال الدين في الزراعة، فأخذوا يتدخلون فيما يزرع الناس ويسيطرون على الزراعة المروية من حيث إشرافهم على توزيع مياه الري.  لقد كان للمعبد أيضًا أراضيه الخاصة في المدينة  فاستأجر العمال لزراعتها. من هنا نرى أن المعبد السومري قد سيطر سيطرة كاملة على قطاع الإنتاج فجمع القائمون عليه معظم السلطات  إن لم يكن جميعها الدينية والدنيوية في أيديهم.  ليس هذا فقط بل أصبح المعبد أيضاً هو المستثمر والذي يقدّم فرص العمل للناس مثل الكتّاب وصانعي الأواني الفخارية والنساجين وغيرهم.  كما أشرف المعبد على شبكات طرق القوافل التجارية.  وإذا كان المعبد هو المسؤول عن جمع المحاصيل،  فقد كان هو المسؤول أيضًا عن تصريف فائض الإنتاج.  لقد نمت سلطة المعبد الاقتصادية والسياسية فكبرت معه المباني الدينية، وأصبح مبنى المعبد هو الأضخم في المدينة.  ولسنا ندري إن كان لكهنة المعبد سيطرة خارج مدينتهم(أي القرى المحيطة بالمدينة).  

وإذا كانت المحاصيل تجمع في المعبد، فإن الكهنة إذن هم المسؤولون عن توزيع الثروات بين الناس وحتى أنهم تحكموا في توزيع الطبقات الاجتماعية.  إن أمر توزيع المحاصيل والثروات على الناس يتطلب من المشرفين عليها تسجيل جميع هذه الأعمال، وهكذا كانت الكتابة في النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد. على أي حال،  نتيجة  لأن  الأمور الاقتصادية من تجارة ومحاصيل زراعية أصبحت تحت سيطرة المعبد، أصبح لزاماً عليه حماية هذه المكتسبات الاقتصادية  فكان انشاء الجيش.  وتم تعيين قائداً للجيش، وأصبح مع مرور الزمان ذو قوة وبأس ، ومن هنا بدأ صراع بين السلطة الدينية ممثلة بالكاهن، والسلطة الزمنية ممثلة بقائد الجيش. لكن الأخير لا يحق له الحكم إلاّ بعد مباركة وموافقة الإله، لأن الحاكم يستمد سلطته من الآلهة وهي التي تعينه لأنه يمثلها على الأرض. كما ذكرت النصوص  أسماء الآلهة، ومن المعروف أن لكل مدينة سومرية إله يحميها ومن هنا جاءت تسمية مدينة – المعبد.  ولقد تم التعرف على قوائم بأسماء الآلهة تعود لحوالي 2500 قبل الميلاد وقد رتبت هذه الأسماء حسب أهمية كل إله. وكذلك أوردت النصوص المكتوبة على الأختام أسماء بعض الآلهة، كذلك نستطيع القول أنه باستطاعتنا التحدث عن ديانات معروفة بعد النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد والتي لا بد أن كان لها ارتباط مع النواحي السياسية.

  • المدينة – الدولة/ الدولة – المدينة في بلاد الرافدين  (حوالي 2900 – 2350 قبل الميلاد):

تبدأ مرحلة دولة المدينة في بلاد الرافدين مع بداية تأسيس الأسرات أو ما يطلق عليه اسم الأسرات الأولى (حوالي 2900 قبل الميلاد)، وتنتهي بتشكيل الدولة الأكادية وهي التي وحدت بلاد الرافدين في حوالي 2350 ق.م. وتتميز هذه المرحلة باتساع مساحة المدن السومرية وزيادة عددها وحصول حروب فيما بينها بدلالة بناء الأسوار وما ورد في المصادر التاريخية المكتوبة من نفس العصر.  وأصبحت الفوارق الاجتماعية ظاهرة بوضوح بين طبقات المجتمع وخير دليل على هذا المكتشفات الأثرية من مقبرة أور الملكية.  وبقي المعبد هو المركز الاقتصادي والديني والمسؤول عن النواحي الإدارية. لكن المؤسسات الإدارية بدأت تلعب الدور الرئيس خلال مرحلة الأسرات الأولى بمعزل عن المعبد، ويثبت هذا بناء القصور الملكية.

لقد حاولت كل مدينة من هذه المدن أن تتوسع وتمد نفوذها على حساب المدن الأخرى مما أدى إلى حدوث النزاعات فيما بينها.  وعلى الرغم من التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لكل مدينة على حده، إلاّ أن بلاد الرافدين قد أنتجت لنا فنونًا إبداعية جميلة ذات طابع موحد، سواء في النحت أو الرسم أو الأختام الأسطوانية وحتى العمارة .  وبلغت مدينة الوركاء أوج عظمتها مع بداية الأسرات، حيث أحيطت بسور تم ترميمه وتجديده في المراحل اللاحقة واتسعت مساحتها  وعلى الرغم من هذا فإن ما عثر عليه في الوركاء من هذه المرحلة لم يتعد الكسر والأواني الفخارية وقليلاً من القطع الأثرية الأخرى.

تعتبر النصوص التي تؤرخ بعد 2500 ق.م هي المصادر التاريخية التي تحدثنا عن المدن التي انتشرت فوق جنوبي بلاد الرافدين مثل اور والوركاء وجرسو واوما وكيش وكذلك عن الحكام الذين حكموا هذه المدن السومرية. كما تذكر هذه النصوص التاريخية النزاعات التي كانت قائمة بين هذه المدن مثل الصراع بين مدينتي لجش وأوما بسبب الاختلاف على خط الحدود بينهما وعلى سير قنوات الري .  ولم تذكر في هذه النصوص مدن من خارج منطقة جنوبي العراق أو بابل كما يحلو لبعض العلماء تسميتها سوى مدينتي سوسه في جنوبي غربي إيران الحالية وتل الحريري (ماري) على نهر الفرات بالقرب من مدينة البوكمال الحديثة.

ومن أهم النصوص التاريخية المكتوبة تلك التي عثر عليها في مدينة جرسو (Girsu) تللوه الحديثة، وتسمى قائمة أسماء الملوك السومريين  وهي تذكر أسماء حكام المدن ومدة حكم كل واحد منهم.  وكذلك عثر في هذه على نصوص تاريخية تفيد بأن أرض هذه المدينة (تللوه) هي ملك للإله ويديرها نيابه عنه حكام يساعدهم كهنة المعبد.  وهنا يبرز تساؤل حول إمكانية تعميم هذا النوع من الحكم الثيوقراطي على جميع المدن السومرية أو في مدينة تللوه فقط.

ومما يجدر ذكره أن هذه النصوص قد أوردت عددًا من الألقاب التي تمتع بها الحكام مثل “Lugal” و “en” و “ensi” وربما تكون هذه الألقاب مرادفة لأسماء الوظائف التي شغلها الحاكم أو المسؤول. ويفسر بعض العلماء هذه الألقاب على أساس أن الحكام ينتمون إلى اسر مختلفة. فمثلاً اطلقت بعض المدن لقب (Lugal) والتي تعني “الملك” وذكرت المصادر أنه كان منتخباً، بينما أطلقت مدن أخرى لقب (Sangu) ويعني “المحاسب” وهذا المصطلح كان يلقب به كبير الكهنة في المعبد.  وعلمًا أن تفسير كلمة (ensi) لا يزال غير واضحٍ إلاّ أنها ترتبط بمصطلح ظهر في فترة قبلها وهو (en) والتي تشير إلى الزوجة من البشر الآلهة المدينة.  وهنا نرى أن حاكم المدينة الدولة كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالمعبد.

ومع نهاية فترة الأسرات الأولى (حوالي 2350ق.م) حاولت المدن – الدول مثل اور والوركاء وتللوه وأوما السيطرة على الأراضي المجاورة لها والتوسع على حساب غيرها، حتى أنه نذكر أن سيطرة مدينة لجش قد وصلت إلى ماري (تل الحريري) على الفرات الأوسط، علمًا أن هذه السيطرة لم تدم وقتًا طويلاً ، لكن هذا يظهر لنا أن القوي أراد أن يصبح أقوى، وأنه أصبح هناك توسع في حدود المدن مما أدى بالتالي إلى ظهور الأقاليم الموحدة تحت حكم واحد تطور فيما بعد إلى ظهور الدولة.
أما بخصوص طبيعة ونماذج الاستيطان خلال مرحلة دولة – المدينة في بلاد الرافدين، ففي حوالي 2700 قبل الميلاد ظهرت إلى النور مجموعة من المدن السومرية وبعض المراكز الحضارية الأخرى المرتبطة بها أيضًا. وكما ذكرنا سابقًا فإن بناء المدن بالقرب من مصادر المياه الدائمة كان هو المحدد لموقع المدينة ومدى نجاحها اقتصاديًا.  لذا، فنجد أن معظمها قد أقيم على ضفاف نهري الفرات ودجلة.  ويمكننا القول أن طبيعة الاستيطان خلال مرحلة الأسرات المبكرة قد تكونت من مجموعة من المقاطعات سكنتها مجموعات بشرية انتشرت فوق السهول التي يمكن ري أراضيها بواسطة المياه المسحوبة من نهري دجلة والفرات.  وقد كان لكل مقاطعة مدينة مركزية أو أكثر ترتبط بها مجموعة من المستقرات الأصغر مساحة وأقل أهمية.  ولقد تميزت كل مدينة بوجود مجمعات بنائية دينية (معبد) وقصور ضخمة وتحصينات قوية. وتكونت البيوت من طابقين وتلتف الغرف حول ساحة داخلية، وتفصل بين البيوت أزقة وشوارع.  واختلف عدد السكان من منطقة لأخرى فمثلاً قدر عدد سكان الوركاء خلال مرحلة الأسرات المبكرة بحوالي 50.000 ألف نسمة. وهي إن لم تكن أكثر المدن السومرية كثافة في السكان فهي واحدة منها، إذ يقدر عدد سكان المدن السومرية بين حوالي 20.0000 إلى 25.000 ألف نسمة. كما كانت كل دولة – مدينة تتشكل من المدينة نفسها بالإضافة إلى البلدات والقرى المحيطة بها.

لقد اكتملت جميع العناصر المكونة للدولة الكبيرة الموحدة في جنوبي بلاد الرافدين في حوالي 2500 ق.م، إذ تشكلت الحكومات وازدهرت التجارة وتعددت الحرف ودونت الوثائق بخط مسماري وازدهرت الفنون بأشكالها المختلفة من نحت وترصيع على الخشب وصنعت الأختام المسطحة والأسطوانية ووجدت الأشغال المعدنية.  وأفضل الأمثلة على هذا الازدهار، المكتشفات الأثرية من مقبرة أور وتل عقرب ومجموعة التماثيل الآدمية من تل أسمر في منطقة ديالى . وأهم من هذا كله التحول السياسي حيث، وكما ذكرنا سابقًا، حلت الدولة الموحدة محل دولة المدنية.  وهذه لم تقم أو تتشكل بشكل عشوائي، ولكن جاءت بعد كثير من التطورات خاصة بروز أهمية المؤسسات الإدارية وزيادة قوة تأثيرها على حساب المعبد، ويدلل الأثاريون على هذا بالقصور الكبيرة التي عثروا عليها في كيش وماري وأريدو ومكتشفات مقابر أور وكيش.  ولم يعد أمر وضع سلم زمني لبلاد الرافدين، خاصة جنوبه، يعتمد على تغير أو تطور في شكل وطرق تصنيع الأواني الفخارية أو الفنون، وإنما أصبح الأساس في هذا الأمر هو تغير الحكم وانتقاله من أسرة لأخرى وتدعم هذا الأمر النصوص والوثائق التاريخية المكتوبة.  

ظهر الملك سرجون في أكاد وحارب لوغال – زاغيزي الملك السومري وقطع عنقه أمام معبد الإله انليل في مدينة نيبور.  وبهذا انتهت فترة حكم دول – المدن وبدأت مرحلة جديدة هي الدول الوطنية. 

ب – الدولة الوطنية  (National State):

رأينا أعلاه كيف أن جميع الأمور قد تهيأت لنشأة الدول الوطنية التي ضمت تحت لوائها منطقة جغرافية واسعة شغلتها مدنًا وقرى وبوادي كثيرة.  إن مصادر المعلومات حول نشوء الدولة وطبيعة الدول لم تعد مقصورة فقط على المصادر المكتوبة،  لكن ومع إجراء العديد من المسوحات والحفريات الأثرية أصبح لا بد من الجمع بين المصدرين لتشكيل صورة صحيحة وواضحة حول هذه الدولة خاصة إذا ما علمنا أن همّ المؤرخ والكاتب كان هو إرضاء رغبات الحاكم فيكتب له ما يريد.  كما أن بعض الكتاب ربما كانوا يتحيزون لوجهة نظر دون أخرى بالإضافة إلى أنهم لم يؤرخو لجميع نواحي المجتمع، ومن هنا تصبح الدراسات الأثرية هي المكملة للمصادر التاريخية.

وعلى الرغم من أن الحفريات الأثرية قد كشفت عن كميات هائلة من المواد الأثرية خاصة الأختام الأسطوانية والأواني الفخارية في معظم مناطق بلاد الرافدين، إلا أن الاكتشاف الأهم كان التعرف على المملكة الإبلائية (Ebla) في شمالي سوريا.  حيث تم العثور على عدد كبير من الرقم الطينية المكتوبة تجاوز عددها الستة عشر ألفًا وتؤكد على وجود مملكة تعود للنصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد.

وعلى أية حال، فإن قوائم الملوك التي عثر عليها في مناطق متعددة تبقى المصدر الأساسي لوضع  جدول زمني، على الرغم من الشكوك التي تحوم حول دقتها. 

وخلال الفترة من حوالي 2350 وحتى 2000ق.م حكم جنوبي العراق ثلاث دول هي الأكادية والغوتية وأور الثالثة على التوالي.  وقد تركز حكم الأكادية في بادئ الأمر حول مدينة أكاد ومن ثم توسعت لتشمل عددًا من المناطق المحيطة، لدرجة أن العلماء أطلقوا عليها أسم أول إمبراطورية في العالم. وقد دام حكمها من حوالي 2340 وحتى 2200ق.م.  ولقد سقطت الإمبراطورية الاكادية على يد مجموعة من القبائل الغوتية أصلها من جبال زاغروس وقد احتلت أكاد وسيطرت على معظم جنوبي العراق. لكن حكم هذه القبائل لم يعمر طويلاً (ليس اكثر من مائة عام) ففي حوالي 2120 قبل الميلاد جهز اوتوحيجال (Utuhegal) حاكم اوروك (الوركاء) حملة عسكرية ضدهم فاستطاع القضاء عليهم. لكن الملك اور- نامو  يعدُّ هو مؤسس فترة الأحياء السومري  هذه، علمًا أن حكم هذه الأسرة لم يتجاوز مائة عام أيضًا.

ولأن العلماء قد أطلقوا على  المملكة الأكادية اسم “مملكة الساميين” فإننا نرغب أن نوضح أن هذا المصطلح (أي سامي) هو من اختراع عالم الماني اسمه شلوتزر أطلق عام 1781م اعتمادًا على دراسته لمجموعة من اللغات القديمة وأراد ربطها بأناس تحدثوها، فاعتمد في هذا على ما ورد في العهد القديم (سفر التكوين 10: 21-31).  وجاء اسم الساميين مشتقًا من اسم “سام” ابن نوح.  ومن اللهجات السامية الأكادية والبابلية والأشورية والعربية والعبرية والآرامية وكثير غيرها. إذن تم توزيع جغرافية المشرق على أبناء نوح الوارد ذكرهم في التوراة، وبرأينا أن الأمر مغلوط تماماً، إذ أن المنطقة معمورة منذ العصور الحجرية وحتى الوقت الحالي دون انقطاع…

زيدان كفافي

عمان في 19/ 3/ 2023م

مرجع لمن يرغب بالمزيد من المعلومات:

كفافي، زيدان 2005؛ أصل الحضارات الأولى. الرياض: دار القوافل.

ملاحظة: تطلب الموضوع أن تكون الخاطرة طويلة. إن لم يكن لك جلد على القراءة وغير مهتم بالموضوع  انسى قرائتها.