وطنا اليوم – بدأت الحكاية في العام 1956حينما فاجأ العلامة والباحث الاردني روكسي عزيزي1903 م ـ 2004 م .ويعد العزيزي من أوائل الدارسين والباحثين والمتعمقين في الأدب الشعبي والتراث العام للبادية وبالأخص بادية الشام والأردن ـ فاجأ المشهد الشعري والادبي العربي باتهامه المباشر للشاعر ايليا ابو ماضي 1889م ـ 1957م بسرقة قصيدة من شاعر شعبي أردني بدوي!! لا بل ان القصيدة المتهم بها تعد من اشهر القصائد العربية التي دخلت المناهج الدراسية في الوطن العربي وهي قصيدة (بيت الطين).
هذا الاتهام ثبّته الباحث العزيزي في كتاب عنونه بإسم (فريسة ابي ماضي).. يتهمه فيه علنا بسرقة قصيدة الشاعر البدوي الاردني على الرميثي الفدعاني العنزي الذي عاش تقريبا في العام (1830) م تقريباً، اي قبل ولادة الشاعر ابي ماضي بأكثر من خمسين عاما. سبق هذا الكتاب بحث طرحه العلامة روكسي من إذاعة الشرق الأدنى؛ نشره في جريدة السائح الشهيرة في آذار سنة 1955م قبل نشره في كتابه هذا .ولكن نشر الكتاب اثار ضجة كبيرة بين مناصر ومعارض له اسفرت عن يقين الجميع بصحة الاتهام.
بطل الحكاية
كان شاعرنا البدوي علي الرميثي (بطل الحكاية) فقيراً معدما، فيما كان له إبن عم يدعى سالم من أثرياء عشيرته وزعمائها . وفي أحد الأيام غزا سالم الرميثي ومعه ابن عمه علي وفي أثناء المعركة جرح سالم، وفرّ عنه ابناء عشيرته إلا ابن عمه علي؛ حمله والتجأ به الى مكان خفي وعالجه إلى أن شفي فأصبح سالم مدينا لعلي بحياته . وصادف أن احب الرجلان فتاة وتنازعا عليها فاختارت الفتاة عليا على الرغم من فقره ورحلت معه، ثم مالبثت أن ماتت. ومرت الأيام فزاد فقرعلي فلجأ إلى ابن عمه في ليلة مثلجة شديدة البرودة جلس فيها الرميثي في المكان المخصص للرجال الذي يطلق عليه البدو اسم (الشگ) الا ان ابن عمه كان حاقداً عليه فلم يلتفت اليه ولم يقدم له الطعام او الدفء، فأثر ذلك في نفس علي وقال قصيدته الرائعة؛ هذه القصيدة التي لم يصمد الشاعر ايليا ابو ماضي أمام اغرائها فأقدم على ترجمتها حرفيا، وسلخها للفصحى فجاءت قصيدة (بيت الطين) التي كانت سبب شهرته الكبيرة… ولكن كتاب العلامة روكسي العزيزي ـ فريسة ابي ماضي ـ كشف هذه الخيانة الكبيرة للأمانة الادبية التي جعلت منه هدفا وغرضا لكبار الادباء والنقاد والحساد في عصره… فكانت الفضيحة مدوية؛شغلت الوسط الشعري والنقدي في حينها و ربما كانت سببا في وفاته في العام 1957ـ بعد سنة من صدور الكتاب ـ في بلاد المهجر.
رأيت ان من الضروري ـ اتماما للفائدة ـ بعد مراجعتي للقصيدتين ان اقوم باضافة ابيات لم ينتبه لها الباحثون مع تصحيح كثير من ألاخطاء الطباعية التي انتقلت من كتاب الى آخر ، ومن دراسة الى إخرى دون تصويب في قصيدة الرميثي..مع اعتماد تسلسل الابيات في قصيدة ابي ماضي مقارنة بقصيدة الشاعر الرميثي.
قصيدة الشاعر علي الفدعاني العنزي الرميثي
ياخوي ماني فحمةٍ مابها اسنى ……ولا انته شمس تلهب الدو بضياه
لاصار ماتاكل ذهب يوم تقنى ……ياخوي وش نفع الذهب يوم تقناه
ملبوسك من البز في يوم تبلى …… مثل الأكفان لميتٍ طال مشحاه
المنوه اللي في ضميرك تلوى……لي مثلها ياشين بالگلب نهواه
نحلم حلوما يوم من ثم نرضى……وتمر يوم السعد مابان ماطلاه
يوم الرياح تناوشك ليه تلوى ……والترف يوم يفارقك ليه تشهاه
كليتنا للترب نمشي ونحيا …….ولاتوهمك يالضبع نفسك بمشهاه
هذا القمر والشمس والنجم يعلى……ونجومكم مثل الخرابيش تنصاه
الثلج يسري والسواعير تضوى ….هبيت ننصى العبد والله ننساه
الله ياگلب كنت للناس منصى…….حتى العشا في مخومسك مالقيناه
أنت وماثمرت تسقط وتبلى …….وتراب قبرك سافي الريح يسفاه
قصيدة الشاعر ايليا ابي ماضي
( بيت الطين)
يااخي لاتمل بوجهك عني ……ماأنا فحـمة ولا أنت فرقــــد
أنت لاتأكل النضار اذا جعت ……ولا تشرب الجمان المنضـــد
انت في البردة الموشاة مثلي ……في كسائي الرديم تشقى وتسعد
لك في عالم النهار أماني ……ورؤى والظلام فوقك ممتد
ولقلبي كما لقلبك احلام ……حسان فإنه غير جلمـ
ايها المزدهي إذا مسك السقم ..الا تشتكي الا تتنهـــد؟
واذا راعك الحبيب بهجر ودعتك الذكرى الا تتوجد ؟
النجوم التي تراها أراها ……حين تخفى وحين تتوقـــد
أنت مثلي من الثرى وإليه ……فلماذا ياصاحبي التيه والصـد
ذدتني عنه والعواصف تعدو……في طلابي والجو أقتم أربــد
لا يكن للخصام قلبك مأوى ان قلبي للحب معبد
إن قصرا سمكته سوف يندك ……وثوباً حبكته سوف ينقــد
وكما اسلفت فانني قمت باضافة بيت لقصيدة ايليا ابو ماضي ـ من قبلي “نوفل الصافي” ـ لأنني وجدت له معنى واضحا مستلبا من صدر بيت قصيدة الرميثي الذي وضعته بين قوسين والذي يقول :
(الله ياگلب كنت للناس منصى)…….حتى العشا في مخومسك مالقيناه
وترجمه ابو ماضي في هذه البيت:
لا يكن للخصام قلبك مأوى ان قلبي للحب معبد
وايضا في عجز البيت الذي يقول فيه الرميثي :
يوم الرياح تناوشك ليه تلوى (والترف يوم يفارگك ليه تشهاه)
ترجمه ابو ماضي الى :
واذا راعك الحبيب بهجر ودعتك الذكرى الا تتوجّد ؟
شهادات وأدلة
لقد أثبت العلامة روكسي وبشهادات مجايلين، ورواة للشعر البدوي على صحة ودقة، وموثوقية اتهامه ، فقد أورد شهادة للسيد سلامة الغيشان الوجيه الاردني المعروف وهو شاعر شعبي مشهور وراوية مهم للشعر البدوي وقد كان رئيساً لمجلس (مأدب)ا البلدي حيناً وهو يعرف القصة وإشعار الرميثي.
وشهادة أخرى للسيد يوسف سليمان الصوالحه وهو رواية لأشعار البادية يروي قصة الرميثي واشعاره وفيها أصل قصيدة الطين. هؤلاء الرواة وغيرهم من الحفظة عاش معهم العلامة العزيزي مدة طويلة حينما جاب البادية من العام 1922م حتى العام 1938م أي ست عشرة سنة، بذلها من عمره كلها من أجل هذا العالم المترامي الاطراف(البادية) والبحث الميداني في شؤونها وعادات البدو وتقاليدهم وقوانينهم ؛ وقد اثبت ـ بلاشك ـ في كتابه )فريسة ابي ماضي( ان الشاعر البدوي علي الفدعاني العنزي الرميثي هو صاحب القصيدة الاصلية وان قصيدة بيت الطين قد نقلها ابو ماضي نصّا منه.
هذا الكتاب ـ فريسة ابي ماضي ـ الذي يعد أول مؤلف يصدر عن الأدب الشعبي والتراث الأردني،لا بل هو أول دراسة عن الادب الشعبي عموماً في الأردن وعن الشعر الشعبي خصوصاً صدرت في العام 1956م ولعلها كانت سبب شهرة روكسي في الأوساط الثقافية والمحافل الأدبية؛ كأديب وباحث وعن هذه الدراسة التي احتواها كتابه)فريسة ابي ماضي(يقول العزيزي : )إن أبي ماضي قد اختلس قصيدة الشاعر علي الرميثي العنزي وهي قصيدة قالها معاتبا فيها ابن عمه فرواها ظاهر أبوماضي لابنه إيليا فصاغها إيليا أبو ماضي باللغة الفصيحة( وبقي العزيزي مصرا على اتهامه الى سنة وفاته في العام 2004 م.
مناصرون ومعارضون
لكن بعض الادباء المقربين للشاعر (ابو ماضي) دفعوا عنه الاتهام ونفوا السرقة جملة وتفصيلا رغم الدليل الفني القاطع ، منهم ميخائيل نعيمة الذي يقول : إنني أعرف إيليا أبي ماضي وأعرف كيف ولدت قصيدة الطين من بدايتها واؤكد انه لا إيليا ولا ابوه ولا أنا نفهم شيئاً من هذا الشعر البدوي!!
أما إيليا ابو ماضي فيقول : نحن لانستغرب ان تعرض لأي إنسان افكار كالتي تعرض لنا فإن الحياة واحدة في كل مكان وإن إختلفت المظاهر ولكن الجو الذي خلق قصيدة الطين غير جو البادية .
فيما علق الأديب والمفكر اللبناني مارون عبود على دراسة روكس ـ مناصرا ومؤيدا لها ـقائلاً: وأنك لتعجب إذ يعارض العزيزي كل بيت بآخر مثله من القصيدتين حتى تردد قول الشاعر:
ولو كان سهماً واحداً لاتقيته
ولكنه سهم وثانٍ وثالث
رأي العلامة مصطفلى جواد
أما عالم اللغة الاستاذ مصطفى جواد رحمه الله تعالى فقد قال عن العزيزي وعن بحثه في قصيدة الطين للرميثي العنزي: أن الأستاذ العزيزي قد قتل أبا ماضي أديباً؛ وجعله كالطير يرقص مذبوحاً من الألم. وهذا اللسان من أبي ماضي.لا يفند نقد الأستاذ العزيزي الذي حاكمه بيتاً بيتاً ومعنى معنى.
وجاء عن رئيس الدائرة العربية في الجامعة الأمريكية ببيروت وهو الأستاذ جبور أنه حاضر طلابه عن سرقة أبي ماضي لهذه القصيدة وكذلك الرابطة الأدبية بالقاهرة أدرجت من بين محاضراتها عنوانها سرقة أدبية أي سرقة أبي ماضي.
فيما اتهم ادباء ونقاد آخرون ، أبي ماضي بأنه كان يغير على شعراء الإنجليز والأمريكان فيأخذ منهم ويصوغهما شعراً على أنه هو المبتكر لها وليس كمترجم للقصيدة من الإنجليزية إلى العربية وهذا شأن آخر لكنه كان يعضد اتهام العزيزي .
الصدمة العائلية
ويروي راضي صدوق في كتابه ديوان الشعر العربي في القرن العشرين “أن زوجة أبي ماضي حرصت على قطع صلة أولادها باللغة العربية بعد وفاة والدهم ووجهتهم للتخصص بالهندسة الإلكترونية مع أنها عربية الأصل كي لايصدموا بما كتب عن والده”.
وهكذا استطاع العلامة روكسي العزيزي ان ينتصر لحق الشاعر الرميثي الذي لم يشهد هذه الموقعة الادبية، هذه الموقعة التي كانت بحق درسا لكل من لايحترم جهد الاخرين فنيا أو من تسول له نفسه بذلك .فالامانة قيمة عليا؛ لابد للشاعر أن يحترمها والا فان عيون المتابعين والمهتمين بهذ الفن سترصده …وما أكثر مارصدت ممن ظنوا انهم سيكونون بعيدا عن الانظار .