وطنا اليوم – كتب بسام البدارين تحت عنوان: “المحظور” حصل في الأردن بين الشارع والحكومة… كيف وأين «أخفق» الطرفان؟:
حصل تماماً «المحظور» في القاموس الأردني، عندما يتعلق الأمر بضوابط وتقاليد العلاقة ما بين السلطة والشارع أو بين الحكومة والناس. وتشكلت باستشهاد العقيد الأمني عبد الرزاق الدلابيح نقطة حرجة في مسار حوار الطرشان ما بين مواطنين غاضبين يفقد دينارهم قدرته الشرائية، ودخولهم تتآكل، واحتقانات معيشية الطابع، وما بين حكومة قررت «تجريب حظها» مع المصارحة والشفافية عندما صرح رئيسها الدكتور بشر الخصاونة بأن خزينة الدولة لم تعد تملك ترف دعم أسعار المحروقات.
عملياً، «الدولة الرعوية» على حد وصف وزير البلاط الأسبق مروان المعشر، بدأت تتخلى عن «رعاياها». أسهل وصفة للتعامل مع حالات الاحتكاك بين الرسمي والأهلي في الأردن هو اللجوء إلى قصف الحكومة واتهامها، رغم أن الحكومة الحالية وإن كانت قد شهدت تقصيراً شديداً في مجال سرد روايتها للأحداث وفي الوقت الملائم، بالمناسبة هي في الواقع حكومة ورثت تركة ثقيلة من القيود التي وقعتها حكومات سابقة مع البنك الدولي. كما ورثت تركة أثقل من الهموم المعيشية والاقتصادية، فيما لا يريد الشارع الغاضب الإصغاء لأي صوت حتى لو كان صوت برلمانيّ يطلب التهدئة على أساس أن الأسعار ارتفعت في العالم، وأن الخزينة المالية للدولة تعاني كما تعاني خزائن الدول الأخرى في القارات الخمس.
حوار الطرشان والحلقات الوسيطة الغائبة أنتج مساحات كبيرة من التشكيك وغياب اليقين وأزمة المصداقية، وبعض الأدوات في السلطة التنفيذية ثبت اليوم أنها ليست من الصنف الذي يمكنه أن يتحدث مع الأردنيين أصلاً أو يمثلهم أو يستمع لأصوات آهاتهم وآلامهم، فما بالك بالحديث عن احترام أولوياتهم!
أزمة مركبة فيها عناصر متعاكسة ومتقاطعة انتهت اليوم بمشهد يقلق جميع الأردنيين، ولا أحد يمكنه أن يفضله، حيث يفقد عقيد في جهاز الشرطة من الكفاءات المهمة والشابة حياته ثمناً لمغامرة بعض المسؤولين في الامتناع عن الإصغاء لألم شرائح في المجتمع الأردني، وثمناً لسعي بعض الأوساط الإجرامية للاستثمار في لحظة العصيان.
مقابل ذلك، مغامرة أقلية من المضربين في الشارع وعدم وجود ثقافة ديمقراطية أو سلمية تفهمهم بأن الفارق كبير ما بين الإضراب، بمعنى التعبير السلمي عن الرأي والمعاناة، وما بين قطع الطريق أو الاعتداء على القانون.
شاء المضربون من شريحة سائقي الشاحنات والباصات أم رفضوا، تورطت أقلية منهم وبدون تدخل من غالبيتهم في تلك المساحة الفارقة، حيث إن إضراب المواطن ينبغي أن يوازيه فهم وجود مواطن آخر لا يرغب بالإضراب، وحيث إن الرأي العام ومعه الحكومة والبرلمان والمؤسسات، لا يمكنه قبول فكرة قطع الطريق وإيذاء المارة والعابرين بسياراتهم ومركباتهم من المواطنين الآمنين، أو حتى من الذين قرروا أن ظروفهم لا تسمح بالمشاركة في الأطراف.
ثقافة الإضراب السلمي ليست منضبطة، والسبب على الأرجح هو عملية الضرب المستمرة تحت الحزام طوال الوقت للقوى الحزبية الأساسية في المجتمع، التي يمكنها أن تكون ضابط إيقاع حتى يتثقف الجميع ويفهم من يضرب سلمياً بأنه يستطيع صف شاحنته أو سيارته في الشارع العام وإعلان إضرابه واحتجاجه باللغة السلمية، حتى يحقق منجزاً، بينما لا يستطيع في الواقع قطع الطريق أمام بقية السيارات والشاحنات أو الاعتداء على رجال الشرطة.
من هنا، ومن زاوية وجود تناقض وازدواجية عند الحراكيين والمضربين وانفعالات يمكن الاستغناء عنها، ومن زاوية عدم اكتمال الرواية الحكومية والسردية، وإن اكتملت في وقت متأخر، يمكن القول إن الجميع يدفع ثمن هذه الإخفاقات الجمعية والجماعية، وبصورة بدأت تلتهم ما تبقى من مصداقية الدولة عند الناس، لا بل تقلق أصحاب القرار والمواطنين معاً بسلسلة من الأحداث الأمنية التي سرعان ما ستتقمص حالة جهوية أو مناطقية أو حتى عشائرية تحت ستار ثقافة مضادة لثقافة القانون أصلاً.
أخفق المضربون من سائقي الشاحنات والحافلات الأردنيين عندما قرروا أنهم يستطيعون إجبار بقية الشعب على الإضراب والتضامن معهم، وعندما قرروا الوقوف في الشارع لقطع الطريق. وأخفقت الحكومة في التمهيد لقرارات بخصوص أسعار المحروقات وفي إشراك مجلس النواب في وقت متأخر، وفي التقدم برواية مقنعة لمسارات الأحداث.
وهذه وصفة طبيعية ينتج عنها الاضطراب، كما يقدر سياسي رفيع المستوى من وزن الدكتور ممدوح العبادي، يرى بأن البنية الاقتصادية والاستثمار يتأثران سلباً بالمبالغات الأمنية، لكن المسألة لا تتعلق باصطفاف الأمني واضطراره فجأة، كما يحصل بالعادة لتعويض النقص عند السياسي.
وهنا برزت حادثة العقيد الشهيد عبد الرزاق الدلابيح لكي تزيد من جرعة ألم ووجع الأردنيين، ولكي تؤسس لمرحلة حرجة جديدة ونقطة استدراكية قوامها مواجهة كان بطبيعة الحال يمكن الاستغناء عنها دوماً بين الناس المحتقنين، والحكومة التي تواجه مشكلات مالية واقتصادية حادة جداً لا تسمح لها بتخفيض ضريبة أسعار المحروقات.
حوار طرشان بامتياز أخفق في التوصل إلى حلول وسطية، لكنه انتهى اليوم بسقوط دم زكي في مشهد مؤلم للجميع لن يخدم الحكومة والسلطات بطبيعة الحال، ولن يخدم المضربين والمعتصمين أو دعاة العصيان المدني، لكنه يعكس سلسلة من الأزمات والأسئلة الحرجة التي تحاول دوائر صناعة القرار بالعادة تجاهلها، فرجل الأمن مضطر للوجود في الشارع لحماية حقوق غير المضربين من قطع الطريق.
والمضربون تمسكوا وبلحظة انفعالية، وأخفقوا في ضبط إيقاع إضرابهم بالطرق السلمية الصحيحة، والحواضن الاجتماعية في مناطق الجنوب وفي بعض أحياء العاصمة والزرقاء تحركت على أساس جهوي في الواقع، وليس على أساس سياسي أو منطلق من إضراب مهني. والحكومة روايتها كالعادة ناقصة، والنتيجة الحتمية لمثل هذه التعاكسات والتناقضات هو حوار طرشان أضفى أو انتهي بأزمة وطنية وأهلية وأمنية وسياسية كبرى، قد لا ينفع معها الحديث عن ترقيع المشهد بترحيل الحكومة الحالية أو حجب الثقة عنها، لأن الانفعال الشعبي والحراكي والتحريري سرعان ما سينتقل لمواجهة أي حكومة أو تركيبة وزارية شديدة يمكن ترقيعها. حوار طرشان يؤلم الجميع في المشهد الأردني، ولا أحد يعلم كيف ومتى سينتقل وسينتهي.