زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون: الوجبة الغذائية لسكان عين غزال قبل حوالي عشرة آلاف عام

24 نوفمبر 2022
زرعوا فأكلنا ونزرع فيأكلون: الوجبة الغذائية لسكان عين غزال قبل حوالي عشرة آلاف عام

 

 

أ.د. زيدان كفافي

عاش الإنسان أطول فترة من حياته متنقلاَ وصياداً وجامعاً للقوت وصائداً للحيوانات، وبقي على هذا الحال حتى قبل أكثر من 12000 ألف سنة حيث طرأ تحول في الأحوال المناخية مما أثر على توافر مصادر معيشته. وبناء عليه، أخذ الإنسان يبحث عن أماكن تتوافر فيها مصادر عيشه طيلة أيام السنة، كما أنه استفاد من خبرته ومعرفته من الطبيعة من تواجد النباتات ومتى تزرع ومواعيد سقوط الأمطار. وبناء عليه، بنى لنفسه بيتاً في مكان دائم، لكن بالقرب من مصادر المياه الدائمة خاصة حول أحواض المياه، ومجاري الأنهار الدائمة والأودية.  ومن أفضل الأمثلة على هذا قرية عين غزال النيوليثية، ونود أن نركز حديث هذه الخاطرة على مكونات الوجبة الغذائية من بقايا نباتية وحيوانية لسكانها خلال حوالي 2500 سنة. 

كشف النقاب صدفة عن موقع عين غزال، حيث أحدثت الجرافات التي كانت  تجرف التراب في عام 1974م من أجل شق شارع رئيسي بين عمّان والزرقاء  قطعاً مرتفعاً ظهر فيه أرضيات مقصورة ومدهونة باللون الأحمر لعدد من البيوت.  وبعد إجراء التنقيبات في الموقع ابتداء من أواخر عام 1982م تبين أن الموقع عبارة عن قرية مساحتها 14 هكتاراً، وابتدأت السكنى فيه اعتباراً من  حوالي 7250 قبل الميلاد وحتى  حوالي 5000 قبل الميلاد (تواريخ كربون اشعاعي غير معايرة). وتميز الموقع ، وبالمكتشفات الأثرية فيه من مباني مدنية وعقائدية، وخاصة التماثيل البشرية التي تعدُّ الأولى من نوعها في العالم.

ويسأل الإنسان سؤالاً: لماذا سكن الناس هذه المنطقة  في العصر الحجري الحديث؟  والجواب أن المكان يتميز بوفرة المياه، حيث يجري وادي الزرقاء، وتم الكشف عن مباني على ضفتي الوادي. كما أن موقع القرية النيوليثية متوسطاً فهو يصل المناطق الجبلية الخصبة والصالحة للزراعة والمليئة بالأشجار مع المناطق الشبه قاحلة حيث تتوفر طرائد الصيد.  هذه هي العوامل التي دفعت الناس للاستقرار الدائم في هذه المنطقة. وللتعرف على مصادرهم الغذائية نقدم أدناه دراسة سريعة  لمكوناتها النباتية والحيوانية.

للتعرف على النباتات التي كانت مصدراً أساسياً للغذاء في المجتمعات الزراعية الأولى  (Neolithic)  والتي بدأت قبل أكثر من عشرة آلاف سنة لا بد للباحث من الحصول على عينات للحبوب والأشجار  البرية المثمرة بأنواعها  من الحفريات الأثرية.  ومن المعلوم أن البستنة أو زراعة الأشجار المثمرة بدأت في مرحلة متأخرة عن زراعة الحبوب، وربما يكون هذا في الألف السادس قبل الميلاد. وحتى يتم التعرف على أنواع الحبوب والنباتات الأخرى  التي زرعها الإنسان أو أكل من ثمارها، يقوم المنقبون في العادة بجمع عينات من التراب خاصة القريب من المواقد أو الأفران وأمكن الأكل والطبخ، ومن ثم يتم سكب الماء عليها بعد أن توضع في منخل، فتطفو الحبوب التي تكربنت مع مرور السنوات فوق سطح الماء، فيجمعها المتخصص في دراسة البقايا النباتية، ويضعها تحت الشمس حتى تجف، وتسمى هذه العملية (تعويم Flotation). بعدها يتم التعرف على أنواعها من خلال دراسة ميكروسكوبية يجريها المتخصص في دراسة النباتات القديمة.  وحيث أننا سنركز في هذه الخاطرة على النباتات التي تم التعرف عليها في موقع عين غزال، ونعتبرها نموذجاً لزراعات العصر الحجري الحديث (حوالي 7250 – 5000 قبل الميلاد)، وهي العينات المتوفرة لدى كاتب هذه الخاطرة كونه مدير مشارك للحفرية. وتعتمد على دراسة الدكتور “رايندر نيف Reinder Neef) الذي كان يعمل في معهد الآثار الألماني ببرلين.

منظر عام  لموقع عين غزال خلال ثمانينيات القرن الفائت 

تم العثور في الغرفة الملونة باللون الأحمر على كميات كبيرة من حبوب العدس والحمص المتكربنة إضافة إلى 13 قرن غزال

 ونبدأ الكلام من  المرحلة الأقدم:

  • مرحلة العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار  “ب” الوسطى (حوالي 7250 – 6500 قبل الميلاد): 

جاءت العينات التي جمعت من هذه الفترة غنية جداً، وتكونت من حبوب: القمح والشعير والبازيلاء، والعدس والحمص.

أما الأشجار، فهي: اللوز والبطم، والبلوط الذي كانت عيناته غالبه على العينات الأخرى.

  • مرحلة العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار الأخيرة “ب” (حوالي 6500- 6000 قبل الميلاد):

غنى كبير جداً بالحبوب والبقوليات، وتم جمع عدد كبير حبوب عدس وحمص متفحمة وبصحبتها 13 قرن غزال داخل غرفة في مجمع بنائي مكون من طابقين. ودلت التنقيبات الأثرية على أن هذه الحبوب كانت مخزّنة داخل مطبخ في الطابق الثاني، وانهارت مع انهيار المبنى. وقد تم فحص عينات منها بواسطة الكربون الاشعاعي الذي أشار إلى أن تاريخها هو الي 6050 ± 50 سنة قبل الميلاد.

  • مرحلة العصر الحجري الحديث ما قبل الفخار “ج” (حوالي 6000 – 5600 قبل الميلاد):

جاءت العينات نادرة جداً، ولم يتم التعرف على بقايا حبوب في عينات روث الحيوانات التي جمعت، ويظهر أن أكل الحيوانات كانت الأعشاب البرية. “Tamarix” 


  • مرحلة العصر الحجري الحديث الفخاري “الفترة اليرموكية” (حوالي 5600 – 4500 قبل الميلاد):

لا تختلف عن سابقتها فترة ما قبل الفخار “ج”.

     يبين الجدول أدناه أنواع النباتات وثمار الأشجار التي شكلت الأساس لغذاء سكان قرية عين غزال النيوليثية مقارنة مع غيرها من مواقع بلاد الشام. ومن الملاحظ أن سكان الموقع قد زرعوا الحبوب والبقوليات، ومنها العدس والحمص:

أما الحيوانات التي أكلها أو ربّاها فقد تم تدجين الحيوانات في جنوبي بلاد الشام  في فترة  متأخرة عن معرفة الزراعة، وكان هذا في  الألف الثامن قبل الميلاد. ومن المعلوم أن الصيد كان من  المقومات الرئيسة في تأمين الوجبة الغذائية في مرحلة ما قبل الزراعة والاستقرار الدائم.  وحتى يمكن الباحثين تقرير أنواع الحيوانات التي أكلها الناس  في قرية عين غزال  خلال المدة بين حوالي 7250 – 4500قبل الميلاد، تم جمع  كل البقايا العظمية التي عثر عليها في الحفرية، ودراستها وتحديد أنواعها من قبل متخصصين، ونقدم أدناه  حول نتائج هذه الدراسات.

مجموعة من دمى الحيوانات القرية الطينية

تراجع اعتماد الناس سكان موقع عين غزال  في الاعتماد على الصيد خلال مراحل العصر الحجري الحديث الزمنية  تدريجياً، ولمسنا هذا الفرق بين مرحلتي العصر الحجري الحديث  “ب” الوسيط(MPPNB)  ، والعصر الحجري الحديث الأخير (LPPNB).وتبين أن نسبة 71% من  عظام الحيوانات  التي عثر عليها في طبقات المرحلة الأخيرة  تخص حيوانات مدجنة خاصة المواشي.  وتعزيزاً لهذا القول  فقد عثر  على عدد كبير من الدمى الطينية لأبقار  في طبقات العصر الحجري الحديث “ب” الأوسط.  ويظهر أنه إضافة للأبقار فقد تم التعرف على عظام للغزلان والماعز.  ومن الدلائل على تدجين الحيوانات في عين غزال العثور على دمى حيوانية ووجود  تحزيز حول رقبتها وكأن حبل لُفَّ حولها.

دمية حيوانية يظهر حز  عميق حول رقبتها وكأنه يشيير إلى ربطها

 ولاحظ المتخصص بدراسة العظام الحيوانية أنه هناك تغير كبير في نسبة  عظام حيوانات الماعز والخراف كانت مرتفعة في مرحلة العصر الحجري الحديث الأوسط، مما جعله يعتقد بأن تدجين الحيوانات كانت في هذه الفترة.  على أي حال،  لم تستخدم الحيوانات في فترة  لأكل لحومها والأستفادة من منتجاتها، بل ربما استخدمت كقرابين بدلالة العثور على بعض الدمى البقرية وقد غرست في أجسادها  نصلات صوانية. 

ثيران وقد غرست نصلات صوانية في جسمها

في الختام نرى أن سكان قرية عين غزال قد حققوا تقدماً اقتصادياً كبيراً ومتطوراً اعتباراً من قبل حوالي عشرة آلاف عام ، فقد قاموا بتربية الحيوانات لكنهم لم ينفكوا  عن صيدها، بدلالة العثور على رؤوس السهام الصوانية التي تستخدم في الصيد. لكنهم أيضاً زرعوا الحبوب والبقوليات، كما أنهم أكلوا العدس والحمص قبل حوالي عشرة آلاف عام.

ملاحظة: أقدم هذه الخواطر للأخوة الأصدقاء والزملاء بلغة سهلة وبسيطة، وأود إعلامهم أنني سأقوم بجمعها وتبويبها وأنشرها في كتاب.

 

عمّان في 21/ 11/ 2022م

 

مراجع للقراءة:

Simmons, Alan, Rollefson, Gary, Köhler-Rollefson, Ilse and Kafafi, Zeidan 1988; `Ain Ghazal A Major Neolithic Settlement in Central Jordan. Science 240: 35-39

 

Rollefson, Gary, Simmons, Alan and Kafafi, Zeidan 1992; Neolithic Cultures at ‘Ain Ghazal. Journal of Field Archaeology 19/4: 443-470.

Kafafi, Zeidan 2001; Jordan During the Late Seventh/Early Sixth Millennia BC. Mediterranean Archaeology and Archaeometry Vol. 1, No.1.: 31-42.  Rhodes:University of the Aegean.