زمن الما بعديات

17 أغسطس 2022
زمن الما بعديات

 

د. ماجد الخواجا

نعيش عصر ما بعد الألفية الثالثة الذي سمته الرئيسة الما بعديات: ما بعد الحداثة، ما بعد الفكر، ما بعد التربية، ما بعد المعرفة، ما بعد التكنولوجيا، ما بعد الثقافة، ما بعد الفلسفة. هذه الما بعديات إضافة إلى ما تدعى بعلوم المستقبل القائمة على التنبؤ الذكي لما ستكون عليه شكل الحضارة الإنسانية القادم، جعلت من المفاهيم والمسلمات والبدهيات والافتراضات القديمة منتهية الصلاحية. ومع التطور التقني وفيضان المعرفة وانسيابية المعلومات، فقد هدمت جدرانا كثيرة كانت مغلقة ومنغلقة على ما بداخلها، لم تعد للسيادة والحدود والخصوصيات من دور في ظل العولمة والشركات عابرة القارات والاتصالات عابرة الدول والتكنولوجيا عابرة الغرف، وبالتالي وصولاً ألى الثقافة عابرة الأفراد.

إن العالم يعيش زمن وثقافة الصورة الالكترونية والمرئية التي أصبح لها من التأثير لدرجة إشعال حروب أو تغيير أنظمة سياسية أو نشاط اقتصادي أو حركة طيران.

ثمة تحول هائل جرى في العقدين الأخيرين تمثل في الإنفجار المعرفي وثورة الاتصالات، بما جعل العالم يدخل طوراً جديداً يسميه البعض عصر ما بعد الحداثة، عصر المابعديات، عصر السرعة الفائقة، عصر المرونة المتناهية. وحدث بالتزامن مع تلك التحولات ، تغيرات كبيرة في مفاهيم ومسلمات باتت متقادمة خاصة تلك التي ترتبط بالمعرفة والتواصل والإعلام.

لقد هُدمت جدران الدول وسيادتها وخصوصياتها الثقافية والاجتماعية وقبلها الاقتصادية لصالح عولمة تكاد تأخذ في طريقها كل شيء. ولم يعد للخطاب التربوي المحلي أو ما يدعى بالتوجيه الوطني من قيمة أو أثر على الشباب في ظل الفيضان الإعلامي وتوافر البدائل الجاهزة والمغرية والسهلة بحيث بات من السذاجة بمكان التموضع خلف مبادئ أو شعارات جوفاء غارقة في المحلية والماضوية.

لم يعد للخطاب الإعلامي الساذج من دور في بناء شخصية الإنسان، بل ربما أصبح عبئاً على الدول التي ما زالت تتبناه تماماً كحال ذاك الجندي الياباني الذي استمر يحارب الأعداء طيلة 25 عاماً في أدغال الفلبين دون أن يعلم أن الحرب وضعت أوزارها منذ ربع قرن. هذا كله انعكس على ثقافة المجتمع العامة والفرعية منها والتي أخذت أشكالاً هلامية لا ملامح لها في دول الهامش المتلقية السلبية الاستهلاكية غير المبتكرة. وصولاً إلى ثقافة الطفل التي تتشكل من تفاعلات لعديد من المتغيرات الاجتماعية.

هناك تباين واضح بين إيقاع العولمة السريع والذي يبتدئ في سرعة آلاتها لا سيما تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والمواصلات، وبين بطء المنظومة القيمية لحقوق الإنسان في التكيف مع هذا الإيقاع السريع. وهو ما يعني التصادم بين منظومة القيم المعولمة حديثة التشكل وبين منظومة القيم المحلية الممتدة بجذورها في أعماق التاريخ ووجدان المجتمعات المحلية.

إنه زمن التفكيك وإعادة التركيب لكن بصورة مغايرة تماما لكل ما مضى، إنها مرحلة التهيئة لعدم التهيؤ لأي شيء، مرحلة التسليم بعدم التسليم، لقد تماهت الأشياء والحالات والمواقف بحيث لم يعد ثمة أطر أو ملامح محددة لأي منها.