بقلم البرفسور محمد الفرجات
الجزء الرابع والخامس……
وفي الأثناء صدر صوت زئير حاد من بين جنبات شجر الدفلى الذي ينمو بكثافة على ضفاف جداول الينبوع، وهجم أسد قسورة شرس ضخم بإتجاه الشيخ يريده فريسة له، فما كان من الشيخ إلا وأن إستل سيفه الذهبي هدية الملك عمران، ولمع السيف القاطع وكان بيده كالريشة يلعب به، فقفز الأسد الهزبر وثبة القاتل لا محالة ليغرس فكيه برقبة الشيخ، فعالجه الأخير بالسيف الذي شطر الأسد نصفين قبل أن يحقق مراده.
إنتهت المعركة بلمح البصر، ونظر الشيخ بدهشة كبيرة وحيرة تارة لشقي الأسد المضرجة بالدماء النازفة وأطرافه التي تخابط وتفاحط بالتراب بلا هدى، وتارة للسيف الذي يلمع ويخرج من أطرافه الحادة ما يشبه صواعق البرق الصغيرة، فأغمد سيفه وتوشح به، وتفقد ريشات عمران الثلاثة، وركب الحصان الذي أهداه الملك عمران، فكان مريحا سريعا سبوقا مطيعا، ذو فراسة يعرف الأمر قبل طلبه من الخيال، وشد الفارس نحو القبيلة التي أمر إبنته وزوجها البدوي بالتوجه لينزلوا بمراحهم.
وبينما كانت كل هذه الأحداث تدور، صار أن تشتت قبيلة الشيخ وهي بطريق رحيلها للديرة الأخرى، حيث ثبت إصابة البعض بالجدري، فكانوا يضطروا للتريث وتنفيذ نفس الطريقة التي يفعلونها مع أي مصاب،،، إلا وأن كثرة الإصابات في آخر الأمر وضعتهم أمام خيار التفرق، فتذهب كل أسرة إلى إتجاه وفج وصوب منعا لحدوث مزيد من الإصابات، فتخلفوا عن الوصول للماء، وعطش الحلال وعطشت خيولهم وإبلهم حميرهم وبغالهم، فهلكت، وسرق منها قطاع الطرق واللصوص ما سرقوا، ولجأت كل أسرة كتبت لها النجاة إلى إحدى القبائل في بطون البادية الشاسعة الإمتداد، وبذلك تفرق شمل القبيلة والتي كانت تعد ببضعة آلاف نفر، وتملك عشرات الآلاف من رؤوس الحلال والإبل، وتسيطر على القبائل الأخرى بسطوتها ومنعة فرسانها وعدتهم وعتادهم.
شاع بين العربان أمر تشتت قبيلة الشيخ، وقد علم بذلك عندما نزل بمسيره برحلة تقصي أثر إبنته وزوجها عند راعي حلال، والذي لم يعرف الشيخ، وتندر له بقصة القبيلة التي تفرق جمعها وشملها، فتناثرت دموع الشيخ وإعتلى حصانه وسابق الريح وبكى ناحبا وينشد:
أواه يا وجد على اللي ضاع ودموعي تنعاه
نعي العزيز بدار عز والقلب ما غير لله شكواه
الجزء الخامس……….
أما وقد علم الشيخ من الراعي بتفرق وتشتت قبيلته، فقد مسح دموعه وشد من أزره، وركب حصانه هدية عمران متوشحا بالسيف القاطع، وفي جيبه ثلاث ريشات تدعو له وقت الحاجة ملك الجان عمران، والذي وعده بتحقيق كل ما يتمنى، إلا العمر والموت فليس لأحد عليها سلطان.
سار الشيخ مسافة أيام بمدة نصف يوم على حصانه السبوق، ووصل القبيلة التي حث إبنته وزوجها البدوي على مقصدها وهو قعيد عند النبع، ولما وصل مضارب القبيلة ودخل ديوان الشيخ السلماني بهت السلماني وكل وجوه القبيلة والضيوف لرؤية الضيف، والذي تواترت عنه الأخبار أصلا بأنه مات قعيدا مع مصابي الجدري من قبيلته، وأن قبيلته تشتت جمعها، وما زادهم إندهاشا وقفته كإبن عشرين عاما صلبا معتدل الظهر وفارس كاسر.
نادى الضيف نظيره السلماني “ما عرفتني يا إبن الكرم والجود؟”… فهرول السلماني يحضنه ويبكي ويقول “سبحان الحي الذي لا يموت، الحمد لله إنك بخير يا إبن العم، ترى أخباركم ما سرتنا، وللحين والله إني ما أقدر أصدق شوف عيني، أنت حي وقادر توقف بعد،،، تفضل… تفضل يا ضيف الرحمن”…
رحب السلماني بالضيف وأجلسه على يمينه، ودارت القهوة، فوضع الضيف فنجانه على الأرض، فتجهم السلماني وتكدر وفي نفسه رهبة من طلب هذا الفارس والمعهود عنه أنه يعد بألف”،،، وأخذ الجميع ينظرون بالضيف وببعضهم البعض بحيرة وتعجب.
فقد كان الضيف يعلم مكانته وكيد العربان له، فلن يستطيع السؤال عن إبنته وزوجها، فما علمت العرب أنه قد زوج إبنته الوحيدة، ولن يصدق أحد ما حدث من أمر زواجها، وقد يرمونها بالفاحشة.
ولما كان يعلم عن فروسية السلماني وأخلاقه ومكانته في قومه، فيستطيع سؤاله هو فقط دون غيره.
إشرب قهوتك، وترى طلب مجاب… صاح السلماني… وأنشد الضيف باكيا:
جيتك يسلماني وقلبي حزين دامي
أنشد غزالة من دمي والدم غالي
قصدتك وفوقها ذيب تهابه الرجال
وترى اللبيب ما يحتاج كثر الأقوال
فلما سمع السلماني الأبيات، فكر هنيهة من الزمن، وفهم المغزى ولم يفهمه أحد غيره… فأنشد يقول:
يا فارس خضعت له شيوخا ورجال
غزالتك بالصيد والصيد بالثمن غالي
ذيبها ما خان والناب يجرح بالأوصال
راح غدر وغزالته سباها طلاق الأركان
فهم الضيف نشيد السلماني، فبكى وناح، والحضور في شدة الحيرة من أمرهم، وما فهمه إلا السلماني والذي بكى معه وناح.
فلقد خطف قطاع الطريق إبنة الشيخ الضيف، ولما حاول زوجها البدوي فك أسرها قتلوه ورموه لوحوش الصحراء، وباعوها للشيخ طلاق الأركان، وهو العدو اللدود والمنافس الكبير للشيخ وقبيلته فيما سبق، وكان بينهم قتال كثير وغزوات، وله آلاف الفرسان والرجال، ولا يفرق بين حلال ولا حرام.
وشيخنا فرد اليوم لا يستطيع وحده أن يرد إبنته الوحيدة، والتي لها في قلبه معزة كبيرة، وهي التي لم تتركه وحيدا عندما غادره الجميع وتركوه وحيدا قعيدا مكسور الظهر بين مصابي الجدري من أفراد قبيلته ليواجه الموت، وحملته مسافات في حر الصحراء وضحت بنفسها من أجله.
جلس السلماني والضيف بعد أن أكرم كما يستحق، وأعلم الضيف المعزب بأنه سيقصد ديرة الشيخ طلاق الأركان ليسترد إبنته، ولكنه سأل السلماني كيف عرف قصة إبنته وخطفها ومقتل زوجها وشرائها من قبل الشيخ طلاق الأركان، فإزداد غضبا وحزنا لما عرف بأن الأخير أعلن دخلته عليها تحديا لخصمه السابق (الضيف)، وأن العرس والدخلة سيتمان الأسبوع القادم.
نام الضيف في ضيافة المعزب الغانم السلماني ودموعه تتساقط على لحيته، وفي الليل صحي على صوت نبيح الكلاب وصهيل الخيل، فما أن فتح عيونه وسط الظلام، وإلا وأم حمران تمسح الدموع وتهمس بصوت خافت وتنشد:
ما يبكي اللي له بالقلب معزة ومكان
دام سيفه المهيب هدية أبوي عمران
لا تحزن غزالة بخير وراس ولدي حمران
قوم سابق الريح تراك ما تنهزم ووراك عمران
فجلس الضيف وفرك عيونه وخفق قلبه لرؤية أم حمران، والتي إختفت مباشرة على يقظته…،
فقام دون أن يشعر به أحد، وتوشح سيفه، وتسلل إلى حصانه، وشط الأخير به يقطع مسافة اليوم بساعات،،،
ومع فجة أول نور الصباح بين الظلام وقليل من الرؤية، وصل فوقف من بعيد على التلال المطلة على ديرة الشيخ طلاق الأركان،،، وإذا بها محمية بفرسان يتناوبون على حراستها، مدججون بالسلاح وخلفهم خندق عميق يحيط بالديرة الكبيرة وبيوت الشعر وبيوت الحجر والطين المتناثرة بالمئات، يعبرونه بجسر كبير ويبدو أن ذلك فقط بكلمة سر تتغير كل ساعة.
ثم عاد إلى رشده، وأدرك أنه هالك لا محالة أمام هذه الجيوش والفرسان، وأنه لن يستطيع تحرير إبنته من يد عدوه وخصمه اللدود طلاق الأركان….