الاستاذ الدكتور محمد الفرجات
…… ……
ولما تمكن من تحديد مكان الصوت والذي يشبه صريخ الأنين تارة وإفراط الإجهاد تارة أخرى، وإذا بعتمة الليل الشديدة تزيح اللثام وعن بعد عن هيئة الأنثى يعلوها حمل ثقيل، فدخل الشك والوجس بشيء من الخوف بنفس الرجل، والذي دارت في باله حكايات عن العالم الآخر ممن ذكرهم الرحالة لعشيرته ممن يسكنون الفيافي والصحارى.
سحب صاحبنا أقسام بندقيته المعمرة بما تبقى لديه من الطلقات الأخيرة، وأطلق رصاصة بلا تسديد ليثير رعب الشبح العجيب القادم نحوه، وردد “بسم الله،،، بسم الله، مين الزول؟” ، فصرخت أنثى من بعيد “عهد الله صحاب وأبوي معي، عهد الله ما حنا بواقين يا لاقي خير”….
شعر الرجل بنوع من الطمأنينة للصوت، وزاح دلة القهوة، ووضع الحطب والقش اليابس مما جمع فوق الجمر، فما هي إلا هنيهات حتى هبت ألسنة اللهب تتعالى، لتكشف ما حول النار بمسافة،،، وتهادى البدوي أخيرا لصورة فتاة وافية جميلة ممشوقة تحمل على ظهرها رجل خمسيني يئن كمصاب الحرب.
ركض بإتجاههم، وعاونها بإنزال الرجل، والذي نزل بصعوبة بالغة جدا جدا والفتاة تلهث وتهمس تعبا وتقول “يا ويلي يا ظهر أبوي،،، يا حيف عالجمل يومن يطيح”….
فلما أنزل الوالد المصاب بظهره وفرشه الأرض، أجلس الفتاة، وأسعفها بشربة ماء، وفعل كذلك لوالدها الملقي على ظهره، ولكن ما زال الشك يراوده (أمن البشر هؤلاء أم من الجن🤔)…
فراقب أرجل الوالد المصاب وأرجل إبنته على هبات ألسنة لهب النار والتي بدأت تخبو، فوجد أنهم بشرا مثله، ودب العزم بداخله “الله حي الضيوف، على ما قسم الله”…
وأحسن إجلاسهم، وعزز مجلسهم كلا كما يطيق، وأعطى البنت الأمان على نفسها وعلى والدها المظهور،،، وبات يقد اللحم من حلته النحاسية، ويقسم قرصه بينه وبينهم، وأكلوا جميعا بنهم حتى شبعوا، وزاد أن شوى لهم بعضا من شرائح لحم الغزال الذي نشره على الصخرة، وطرب شوقا بنفسه لهذه المليحة والتي لم يقابل في حياته بدرا بكمالها، ولا فتاة بأنوثتها، فإستغفر لما زل بفكره، ليصحو من غفوته تلك على صوت غليظ متماسك يشكره ويثني على حسن رفادته وسقايته له ولإبنته.
فوضع صاحبنا دلة القهوة من جديد على الجمر، وتسامروا لما قبل الصباح، حيث روى والد الفتاة قصتهم وما جعلهم بهذا الحال…
وقال والد الفتاة كنت شيخا مهابا جليلا في قبيلتي الكبيرة وصاحب مال وسلطان وجاه، وطب أحد أفرادها الجدري، فأعطيت أوامري للجميع بالرحيل عدا المصاب، يترك وحده مع كثير من الزاد والماء والدواء المتوفر، وسلاحا يدافع به عن نفسه من الحيوانات المفترسة، فإن نجى من مرضه لحق بنا، وإن مات به نتقي العدوى لئلا تفتك ببقية القبيلة.
ولما تجهزنا جميعا للرحيل وبعد يوم طويل وشاق من العمل وشحذ الهمم ومتابعة أمور الرحيل لدى أفراد القبيلة، زلت قدمي عن الصخرة التي إعتليت عليها جوادي، فجفل وإنطلق الأخير يسابق الريح ليرميني إلى الأعلى فتتلقاني أرض قاسية فلقت ظهري، بت بعدها لا أقوم ولا أمشي ولا أجلس.
وحينها حاول أبنائي وأبناء عمومتي وأفراد قبيلتي وفرسانها إسنادي وإنعاشي، وبلا فائدة، وما كنت أزداد إلا ألما لا شبيه له أداويه بالعويل…
وبقينا على هذا الحال أسابيعا، ولم نرحل، وظهرت علامات العدوى بالجدري على أطراف القبيلة، فإجتمع مجلس القبيلة وهذه المرة الأولى بدوني، وقد عم الحزن بنفسي، وعرفت بعدها بأنني سأواجه نفس مصير المصابين بالجدري عند رحيل قومهم، فأنا الآن مقعد ورحيلي معهم مستحيل، ويبطيء مسيرهم، والحلال لا يحتمل طول السفر والتأخير بلا ماء، ويجب أن يشرب من النبع الذي ستنزل القبيلة في أطرافه بعد مسير يوم على الأكثر، ودون تأخير… وكان الموت يطارد الجميع، حتى أن أولادي وأبناء عمي قرروا الرحيل وتركي.
وفعلا أعطيت ما يعطى المريض من زاد وماء وسلاح، وغادر الجميع ودمعي يسيل، يأخذون مالي وحلالي وملكي في قبيلتي، ويرثوني وأنا حيا، فبكيت ونحبت ونوحت كالذئب، لتخرج من بين جنبات بيت الشعر إبنتي هذه وتقول “الحياة معاك والموت معاك يبوي”، وكانت قد إختبأت عن قافلة ومواكب الرحيل لتبقى عندي.
وأكمل الأب بأن اللصوص وقطاع الطرق بدأوا يحومون حول بيوت المرضى بالجدري وبيته، وفي الليل ونجاة بإبنته قرروا الهروب، فحملته على ظهرها، وقطعت به المسافات، حتى وصلوا إلى صاحبنا وشاركوه طعامه.
وبعد تبادل للحال والمحال وسرد قصص الحل والترحال التي مروا بها، أدركهم فجر الصباح، وناموا عميقا، ليصحوا على هدير النافة والرسن الذي فلتت منه لتهرب ولا يلحق بها إلا الريح، وتأخذ معها الزاد والماء….
جلس الجميع بحيرة وحزن على ما حل بهم بعد هروب الناقة، فكل ما يملك صاحبنا في رحلها، ولم يبق معه سوى قربة ماء والبندقية وباقي شرائح اللحم المنشور… وكان صاحبنا يسترق النظرات بعيون الفتاة دون قصد، فلاحظ الأب المقعد المظهور ذلك…
وفي الأثناء، نادى الأب البدوي وهمس بأذنه، فإرتسمت على وجهه إبتسامة كبيرة تخرج من القلب، وقال “وأنا قبلت”، فزوجهما وشهدوا على أنفسهم، وكان الله خير الشاهدين،،، فحل المساء، وإختلى الرجل بزوجته، وفج ضوء الصباح على صوت الوالد ينادي “الرحيل الرحيل يا قوم”،،، وأمر زوج إبنته وإبنته بالرحيل والسير شمالا طلبا لإحدى القبائل التي تنزل مسير يومين من مراحهم.
إعترض الصهر وإعترضت العروس، فلن يتركوا نسيبه ملقي على ظهره فريسة للوحوش بجانب الينبوع،،، فصرخ بهم “إن كان لي عمر سألحق بكم، فقد يشفى الإلتواء بظهري وأقدر على المشي”… ونبههم من خطر البقاء بسبب قطاع الطرق والذين بلا شك سينزلون هذا المنزل.
سار الزوج بزوجته مع قربة الماء التي تبقت، وأبقوا البندقية بما تبقى فيها من رصاصة واحدة لا سواها مع النسيب الظهير ليحمي نفسه من الضباع والسباع وقطاع الطرق….
بقي النسيب القعيد وحده وحل الليل وقدح على الحطب الذي جهزوه بجانبه وأشعل نارا صغيرة، ونظر بالسماء ملقي على ظهره والحزن يملأ قلبه، والأمل يحدوه بمعجزة تشفيه مما حل به ليقوى على المشي، وسكن كل شيء فجأة، وتلون لهيب النار من الأحمر للأزرق، وأخذ صريخ وولولة ومطاردة عنيفة يقترب منه، فزحف وزحف وزحف والبندقية بيده، وثبت جسده على الصخرة والألم يعتصر قلبه..
ونظر بتدقيق كبير، فإذا بذئب شرس جدا يركض بسرعة وبفمه طفل عاري، وخلفه إمرأة تصيح “وليدي يا حمران، وليدي يا حمران”،….
فما كان من القعيد وهو قناص ماهر يشهد له إلا وقد سدد بندقيته بين عيني الذئب، فأعطاه صلية قاتلة أردته على الفور، وسقط الولد من فمه يتدحرج حتى إستقر،،، وما زال القعيد يراقب المشهد، فجاءت الأم مسرعة بعيونها الغريبة ومخالبها وتناولت ولدها حمران، وأخذت تصرخ وتنشد باكية:
جظ مني وليدي حمران ما أملك غيره وأنا بنت أبوي مالك بحار وديار وصحارى وكثبان،،، جظ مني وليدي واللي رمى الذيب تراه يملك القلب وكنوز أبوي وسلطان إبني حمران،،،
…..
ولما إقتربت الأم وولدها بحضنها باحثة عمن أردى الذئب، بدت جميلة كالشمس، شرسة كاللبؤة، متوحشة وكاسرة، شعرها يجر خلفها، وعيونها بالطول عكس البشر، وقدميها كحافري الحمار، وتلبس الحرير المطرز بالجواهر وخيوط الذهب، فسقط القعيد مغشيا عليه لهول منظرها…