للدكتور محمد الفرجات
عام 1875 ميلادي خرج رجل بدوي بالأربعينيات من اليمن براحلته (وكانت ناقة قوية)، وفي رحلها الكبير حمل زوادته الوافية من طحين وتمر وتين مجفف، وحاجات للطبخ وإعداد الطعام، وخصص أربعة قرب ماء كبيرة لحر وعطش الطريق، وتسلح بسيفه القاطع وخنجره الحاد، وبندقيته الحديثة والتي تطلق الرصاص دون الحاجة لمليء البارود عبر الفوهة، وكان قاصدا بلاد الشرق للتجارة.
ولم تكن هذه المرة الأولى التي يسافر فيها الرجل، ولكنه إعتاد سابقا أن يكون برفقة رهط من التجار والأصدقاء ممن يقصدون ذات الديار…
وإنطلق البدوي يسير بهمة وتقدم جيد، يمشي في النهار، وينام في الليل، ويعمد في نومه إلى مكان منخفض لكي لا يكشفه قطاع طرق أو لصوص، ولكي يتجنب فتك الضباع والأسود والذئاب والتي كانت منتشرة بشكل معهود في تلك الفترة.
وبعد أن قطع مسافة سير سبعة أيام، وأنهكه المشي وركوب الراحلة، وأصابه الجوع الشديد لإعتماده على التمر والتين المجفف فقط، قرر أن يخصص نصف ما تبقى من نهار للصيد لعله يأكل اللحم، وإجتهد بطلب الصيد قرب أحد الينابيع، وقبل الغروب بساعة أطلت عدة غزلان تبغي إرواء ظمأها من الينبوع، فمد بندقيته وسدد بمهارة عالية، فإذا هو يظفر بغزال مليح مليء اللحم.
قعد صاحبنا إلى جانب الينبوع وسلخ الغزال بعناية بخنجره الحاد، وقطع منه ما يكفي للطبخ، وشرح ما تبقى ونشره على الصخرة المجاورة ورشه بالملح ليأخذه معه في باقي الرحلة.
جمع الرجل الحطب والليل يسكن المكان، والصمت الرهيب يخيم على المنطقة، ولا يسمع سوى خرير الماء، وعواء الذئاب من بعيد.
إجتهد البدوي بإشعال القدحات التي أحضرها معه، وكان قد جهز الحطب للإشتعال بطريقتهم المعروفة، وهبت النار لتضيء المحيط وتكشف مكانه، وعمت رائحة اللحم والدم لتثير شهية الحيوانات المفترسة والتي إعتادت ورود الماء في أوقات متأخرة من الليل.
فعمر بندقيته وسحب سيفه ووضعهما بجانبه تحسبا لأي مكروه.
هم صاحبنا إلى رحل ناقته والتي شبعت من الماء والكلأ في حرم العين وبدت مستمتعة بالراحة والسكون، وتناول حلة (طنجرة) نحاسية كان قد أحضرها للطبخ وعجن الطحين في رحلته، وملأها بالطحين والماء ليجهز العجين لقرص النار، وشوى قرصا كبيرا وسميكا يكفيه لطعامه وعدة أيام للطريق.
ووضع اللحم في الحلة مع الماء وملح وبهر وفلفل مما معه من توابل، ووضع الحلة على النار، ورويدا رويدا فاحت رائحة طعاما شهي جدا، فلف سيجارة من تتن الهيشي ريثما يعقد المرق وينضج لحم الغزال المتبل، ليأكله مع القرص الشهي، والذي لفه بعباءته لكي يحافظ على سخونته.
إستوى الطعام، وأنزل الرجل حلته الشهية عن النار، والتي صارت جمرا يبعث الدفيء والنور والسكينة، ووضع دلة القهوة على الجمر وعمرها بالقهوة والهيل والقرنفل.
ولما قطع أول لقمة خبز من قرصه ووجه يده لحلة اللحم، سقطت عينه على أذن الناقة والتي إرتجفت فجأة، فسمع صوت مسير جماعة بإتجاهه، وقفز بسرعة البرق لبندقيته ووضع السيف إلى جانبه، وإختبأ خلف الصخرة التي نشر عليها اللحم، وأخذ يراقب المشهد،،،
يتبع الجزء الثاني بعون الله تعالى