بقلم: سليمان الطعاني
صرخة جريئة يطلقها علماء الخيال العلمي للدخول في عصر جديد يسلّم فيه الإنسان قَدَره للآلة فائقة الذكاء والقادرة على إعادة تشكيل الإنسان وتمكينه من قهر الطبيعة، دعوة كذلك للتخلي عن الخصائص المميزة للإنسان وبشريته والإستسلام لعوالم وخيالات ما بعد الإنسانية والانتشاء بلذة التفرد والتميز حيث ستحول التكنولوجيا الإنسان الحالي إلى إنسان مركب من قطع غيار متعددة، مصنعة في المختبرات ليكون “إنسان معدل وراثيا”، إنسان آلي أو شبه آلي يتجاوز النقص البشري.
وبذلك سيفقد الإنسان هويته الإنسانية فيغترب عن نفسه، ليصبح مفعولا به تحت سيطرة العالم المادي والتكنولوجي لتتمركز أحلامه حول الأشياء فلا يتجاوزها؟
التقنيات الحديثة تتدخل الآن عن قصد وإصرار لإحداث انتقاء وتطور اصطناعي للإنسان لعمل تعزيزات جذرية عليه تحت عنوان كبير ومصطلح جديد هو “ما بعد الإنسانية Transhumanism” بمعنى محاولة الإستعانة بالتكنولوجيا الحديثة لتجاوز قصور الإنسان الحالي وضعفه وحالته الراهنة في الوجود للإعتقاد اليقيني بعجزه، والإقتناع بالقدرة على تجاوز هذا النقص البيولوجي والنفسي والذهني عنده، مع الإيمان بإمكانية الوصول إلى التفوق الخارق، إلى جانب القدرة على التحكم في إمكانات الذات وتجاوزها. وأخيرا الوصول إلى تحسين مستوى العيش!!!
مفهوم ما بعد الإنسانية يمثل مشروعاً علمياَ جديداً، يهدف إلى تطوير مجال قدرات الإنسان البيولوجية والعقلية والنفسية وتوسيعها ليس بإرادته ولا على أهوائه ولكن بالإستعانة بتقنيات حديثة والإفادة من كل العلوم البيولوجية والرقمية والذكاء الاصطناعي!! مشروعاً يهدف ألى نقل الإنسانية ككل، نقل النوع الإنساني نقلة نوعية إلى نوع آخر، تتوسع فيها قدراتنا لنصبح خارقي الذكاء وطويلي العمر، نتمتع بقدرات فائقة لا نحلم بها!!!!
تاريخيا، ظهر مفهوم ما بعد الإنسانية Post humanism عام 1999، حين أطلقه الفيلسوف الألماني، بيتر سلوتير على تيار فكري يدرس العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا الحديثة، ومستقبلها الذي سيغير تركيب الإنسان وعاداته وطبيعته. يرتبط المصطلح بحركة تطورية تسعى إلى تطوير قدرات الإنسان الفكرية والجسدية لمواكبة التطور التكنولوجي المتقدم. بمعنى استخدام العلوم والتكنولوجيا عن سبق إصرار وقصد “التعزيز الرقمي” للكائن البشري، أي توظيف التكنولوجيا للقضاء على الشيخوخة مثلاَ والمعاناة والأمراض، وربما حتى الغباء. كل ذلك بغرض التأهيل الشمولي للإنسان، حتى يكون أكثر قدرة على مواكبة الركب الرقمي المتطور بشكل سريع!!!
حظي الأنسان في السابق بأطراف صناعية ونظارات أو عدسات صناعية، وحان الوقت الآن ألى موجة جديدة من التعديلات بفضل التكنولوجيا، قوامها مثلا عدسات لاصقة من شأنها أن تلتقط صوراً أو مقاطع فيديو مصورة، أو روبوتات صغيرة الحجم بمقدورها التحكم في مجرى الدم في أجسامنا، وربما زراعة شرائح تحت جلودنا تساعد على التواصل بشكل أسرع وتعزز من قدرتنا على التفكير لتواكب سرعة الآلة، أو شرائح إلكترونية داخل الدماغ من شأنها تسريع عملية التفكير لدى الإنسان وتجعل أدمغتنا متصلة مباشرة بشبكة الإنترنت.
تقع مسألة إطالة عمر الإنسان ضمن أهم أولويات ما بعد الإنسانية هذه. ففي نظر علماء ما بعد الإنسانية، لا يصح أن يظل «إنسان ما بعد الإنسان الحالي» يعاني من قِصر العمر وأمراض الشيخوخة، وإلا لما كان يتميز عن الإنسان الحالي في شيء. لذلك نراهم يبذلون جهوداً مضنية لإطالة عمر الإنسان الجديد والتغلب على شيخوخته، وحول ذلك يقول عالم الأحياء الأمريكي ناثانيل ديفيد: ما نسعى اليه في الوقت الحاضر هو: بدلاً من أن تموت وأنت على مشارف الثمانين من عمرك، ممدداً على سريرك وموصّلاً بأنابيب القسطرة أو مصاباً بخلل عقلي ما، ستموت ولكن في عامك المئة وعشرة وأنت في ملعب التنس بينما تفوز في المباراة، أو في سيناريو آخر، ستكون مقتولاً على يد شريك حياتك لأنه يغار عليك!!!
ومن يدري؟! ربما يأتي اليوم الذي يخترعون فيه لصقات جروح غير مرئية لتلك الجروح التي تسببها الكلمات الجارحة في أرواحنا، أو غسول لراحة البال يستعمل كل يوم وفي كل الأوقات أو مطهر للنفوس المصابة باليأس، أو شراب مقوي للقلب.. لتلك القلوب الحزينة والمنكسرة أو بخاخ نسيان لتطييب الحالات المؤسفة، لا آثار جانبية، لا مضادات استعمال، الجرعة غير محدودة، التأثيرعام ومباشر!!!!
وفي النهاية، سواء تعرضت البشرية لنوع من التحويل والتعزيز الجذري لمقدرات الإنسان البيولوجية، أو سواء انفجر الذكاء الاصطناعي مُحدثًا ذلك الزلزال في بنية الإنسان، فهذا كله في النهاية من صنيعة عقل هذا الإنسان نفسه ومن نتاج خياله المبدع وشطحاته الجهنميّة قبل كل شيء، وهو الذي سيجني ما سيجنيه في النهاية ثماراَ كانت أم كوارثاً!!!