وطنا اليوم _ حيث هدف الكتاب للوقوف على تحوّلات النكتة بوصفها خطاباً جديداً، تمرّد على مؤسسة الإضحاك والتسلّي، ما أفضى إلى تشكّل خطابٍ يحقّق علوّاً على الخطاب التقليدية بسلطاته، فنُزعت سلطة النّاص لصالح سلطتي المتلقّي والرسالة، مستفيداً مما وفّرته التكنولوجيا الحديثة من أدوات تواصلية جديدة ومتشعبة.
ولأنّ النكتة نصٌ مطاوعٌ في تشكّله كانت تشاركيته مع أجناس أدبية أخرى إحدى أهم ميزاته التي وفّرت له مرونةً عاليةً، كان لا بدّ من دراسته في إطار المعنى وأنساقه، فكان المنهج التداولي بسعته وإطلالته على النّص من داخله وخارجه وتقاطعه مع العلوم الإنسانية الأخرى طريقَ الباحث لتلمّس خطاب النكتة، فتوقفت الدراسة عند مفاهيم: النكتة، التداولية وإشكالياتها عبر محطتين الأولى: بنية النكتة ومكوناتها وتقنياتها، والثانية: تأصيل النكتة في الأردن سيسيوثقافياً ورصد تحولاتها بالتركيز على النكتة الناجزة التي يجري تداولها في إطار المسكوت عنه.
وقد خلص الكتاب إلى أنّ خطاب النكتة لا يخضع لمقاييس الشكل والمضمون، لأنّه خطاب متمرد يولّد المعنى وفق معطيات زمانية ومكانية وفّرت له مفاهيم المنهج التداولي ومعاييره صيرورة مختلفة وتلقياً جديداً.
لتؤسّس للنكتة بمفهومها الجديد، وتؤصّله باحتفاء، في مجتمع قلّ أن يوصف بأنّه يمتلك الروح القادرة على إنتاجها.
فمن منطلق وعي الباحث بموضوعه نجده يقول: « يطرح التداول غير المسبوق للنكتة باتساعه وكثافته وسرعة انتشاره بين الأردنيين تساؤلاً حول الصورة النمطية المرسومة عن الأردنيين، والمتمثلة بغياب خفّة الدم، وحسّ الفكاهة هذا لو قورن الأمر بالشعوب العربية المجاورة في مصر، سوريا والخليج، وحتى لدى الشعب العراقي .
وتتحقّق في هذا الكتاب – بوصفه دراسة المؤلّف الأولى في مسيرته البحثيّة، والأولى في بابها البحثي الفريد في نظريّة الأنواع الأدبية أو قراءة جنس أدبي مختلف فيه- القراءة المنهجيّة للنكتة الأردنية في ضوء التداوليّة والتواصليّة. فليس يخفى علينا الإشكال الذي تثيره لغة النكتة المفكّكة أو العاميّة أو السياقية التي يفقد فيها النص كثيرًا من الخصائص التي تعتمدها الأجناس الأدبيّة القارّة، ناهيك عن غياب المؤلّف أو القائل، الذي عادة ما كان يمنح نصّه البعد التجنيسي من أسلوبه ومدى انسجامه مع مؤسّسة ذلك الجنس الأدبي.
أمّا التداول الإعلامي لها والبعد البراغماتي التواصلي فيها فهو مدعاة للضبط والاستقصاء والتتبع والانتشار بهدف استقراء هذا الجنس الأدبي القديم الجديد، والزئبقي التشكيل، والعصي على التصنيف، وهذا مما يحمد للباحث أن تصدّى له على كثرة ما فيه من الإشكالات.
لذلك كلّه فهذه دراسة فريدة للنكتة، والنكتة في جوهرها:
1- خطاب تهديمي يخرق اللغة ويهدم مواضعاتها. ويشكّل ثورة في وجه العنف الذي تمارسه اللغة على الإنسان حين تقسره على قواعدها، وتجعله يغترب عن نفسه.
2- خطاب مقاوم على صعيدين هما: علم النفس؛ لأنها تحفظ الذات الإنسانيّة من عدوان الآخر عليها بهدم عوامل إخضاعه النفسي الداخلي. وعلم الاجتماع؛ لأنها تحاول خلق حالة من المحاكاة الساخرة للواقع بقلبه اجتماعيًّا لمصلحة العقد الاجتماعي الجديد الذي تتطلّع إليه الجماعة البشرية المعنية بعد التخلّص من البنيان التسلّطي الفاسد الذي تثور عليه.
3- هتك للبناء القائم وتدمير له وهزء به؛ لأن الخطاب كل خطاب هو استراتيجية
احتراب كما يرى أمبرتو إيكو، بين غالب ومغلوب، ولا بد من قلب قواعد المواجهة في هذه اللعبة/المعركة لمصلحة الصوت الناقد، من خلال عنصر السخرية أو قلب الأوضاع أو النقض أو الإطلاق، أو التعالي أو الخضوع؛ لخلط أوراق الرابح في الواقع أو المسيطر بالسلطة أو العنف أو التقديس أو الشرعيّة الاغتصابيّة.
4- خطاب كشف وفضح للبناء الدوستوبي العميق في فساده المتأصّل. سياسيًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا.
5- النكتة فعل مقاوم بكل ما تحمل الكلمة من معنى، هي فعل حياة، فعل صمود، فعل ثورة، فعل تغيير، بمكر ودهاء وخبث والتزام وعدم التزام في الوقت ذاته، إنّا تمنح مطلقيها المعلومين المجهولين معًا هويّة ما ولكنها سرعان ما تنقلب على ثوابت أي هوية يمكن أن تتشكل في الأفق، لأنها فعل تفكيكي بامتياز.
فهذه الدراسة هي في التوصيف الدقيق لها أراها مقدّمةً أو مدخلً منهجيًّا أصيلً لا يمكن استكمال البحث في النكتة في المجتمع الأردني أو العربي بعامة وفي وسائل التعبير كلها بالإحصاء والدرس والتحليل والتوثيق والجمع والتفسير والتقييم إلا بالبدء من مثل هذه الشرارة المتوهجة التي قدّمها الباحث في برنامج دراسات عليا طموح وجريء.
فقد قدّم الباحث الكثير، وما زال ينتظر منه أو من آخرين أن يكملوا البحث في هذا الميدان الواسع والمؤثّر والدقيق والمثير.