بقلم المهندس خالد بدوان السماعنة
حين نتأمل في المشهد الأردني–الإسرائيلي اليوم، لا يكفي أن نقرأه بعيون السياسة وحدها؛ فهناك ما يتجاوز الأرقام والتقارير،
شيء أشبه بتيارٍ تحت الأرض
يغيّر مجرى النهر بصمتٍ طويل،
قبل أن يظهر على السطح
كفيضٍ لا يمكن التحكم به.
الأردن، في علاقته بإسرائيل، يشبه مسافرًا على جسرٍ متهالك: يعرف أن عبوره ضرورة، لكنه يدرك أن أي زلة قد تقوده إلى هاويةٍ لا قرار لها. لهذا كان التوازن دائمًا فلسفة عمّان:
لا تفريط في معاهدةٍ تشكّل صمّام أمان إقليمي،
ولا قبولٌ بالاستفزازات التي تهزّ وجدان شعبها
وتستفزّ ذاكرتها الجمعية.
إسرائيل من جهتها لا تفهم هذه المعادلة إلا من زاوية القوة، فتسرف في بناء جدرانٍ أعلى من الجغرافيا، وتتصرف كأن الأرض لا تحفظ ذاكرة أصحابها.
الحكومة الإسرائيلية الحالية، بما تحمل من نزعات استيطانية متشددة، تمضي في مسار يزدري الآخر، فيغدو التعامل معها أقرب إلى مجادلة طوفانٍ لا يعترف إلا بمنطق الغمر والإغراق.
لكن المسألة ليست سياسية وحسب. بل هي في عمقها صراع بين سلامٍ على الورق وسلامٍ في القلوب. فالأردني الذي نشأ على حكايات النكبة، والذي يحمل في روحه صورة القدس كأيقونةٍ وهوية، لا يمكن أن يتصالح مع واقعٍ يُفرغ المدينة من قدسيتها ويحوّلها إلى مساحة نزاع. هنا يتقاطع الموقف الرسمي مع المزاج الشعبي:
فحين يعلو الصوت من عمّان
دفاعًا عن الوصاية الهاشمية،
فإن صداه يتردد في الشارع
كصوت الذات وهي تدافع عن نفسها.
ومع ذلك، يبقى التوتر محسوبًا، كرقصةٍ على حافة سيف: لا هي مواجهة شاملة، ولا هي صداقة مستقرة.
إنها إدارة أزماتٍ أكثر من كونها بناء علاقات.
في كل مرة تصل الأزمة إلى ذروتها، يعود الطرفان إلى القنوات الخلفية، وكأن بينهما عقدًا غير مكتوب:
“لن نقطع الجسر، لكنه سيبقى مليئا بالشقوق، مضرجا بالتصدعات”.
المفارقة أن إسرائيل وهي تندفع شرقًا وجنوبًا نحو عواصم أخرى عبر اتفاقيات التطبيع،
تظن أن تجاوز عمّان ممكن،
لكنها تغفل عن أن الجغرافيا
ليست مجرد خرائط، بل شرايين حياة.
فالأردن، الذي يقف على خط التماس بين فلسطين والعالم العربي، ليس ممرًا يمكن تجاوزه بلا ثمن، بل هو حارس بوابة، إن قرر إغلاقها، تغيّر وجه المشهد كله.
وهكذا، فإن قراءة التوتر الأردني–الإسرائيلي اليوم لا تكشف عن قطيعة قادمة، بل عن معادلةٍ تزداد هشاشة كلما توغلت إسرائيل في التطرف، وكلما ازداد الشارع الأردني رفضًا للقبول بسلامٍ أعرج.
إننا أمام علاقةٍ معلّقة بين الضرورة التاريخية والرفض الوجداني، علاقةٍ لم تهدأ يومًا، بل تأخذ أشكالاً جديدة من التوتر، كجمرٍ تحت الرماد، ينتظر نفخة ريح.
ودمت يا أردن بخير