د. عطا أبو الحاج يكتب : مظاهر الأحادية في التفكير

منذ ساعة واحدة
د. عطا أبو الحاج يكتب : مظاهر الأحادية في التفكير

كتب د. عطا أبو الحاج

تتجلى مظاهر الأحادية في التفكير في سلوك كثير من الأفراد، على جميع المستويات، كالعلاقات الأسرية، والاجتماعية، وعلاقات العمل، والتعليم، وغير ذلك، ربما لجهل كثيرين منا بالحدود الدقيقة الفاصلة بين الإقناع والفرض، وقد تغيب على بعضنا أهمية احترام قناعات الآخرين، وعدم المساس بها تحت أي ظرف، وباستخدام أي سلطة.

ومن المظاهر السلبية لأحادية التفكير في نطاق الأسرة، على سبيل المثال، عدم وجود قنوات تواصل ثنائية الاتجاه بين الوالدين وأبنائهما، إذ يعتقد كثير من الآباء والأمهات أنهم أصحاب الحق في تقرير مصائر أبنائهم، لأنهم يعرفون ما ينفعهم وما يضرهم، وبالتالي يعطون أنفسهم صلاحية التدخل في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بأبنائهم.

وهذا يضعف جانب التماسك الأسري، ويجعل الوسط الأسري خانقا وغير مريح. كما قد تبدو أحادية التفكير على المستوى الأسري أيضاً في تفرد أحد الزوجين في تسيير شؤون الأسرة، وعدم السماح للطرف الآخر بالتدخل أو إبداء الرأي، ويترتب على هذا تحرك مركب الأسرة بحسب رغبة الطرف الأقوى فيها، مع تجاهل رغبات الطرف الآخر في مسائل قد تكون مصيرية بالنسبة له.

وعلى مستوى التعليم، نجد الطلاب في كثير من النظم التعليمية يعانون من أحادية معلميهم في التفكير وفي النظر إلى بعض القضايا التربوية والأكاديمية. ولا يختلف الأمر من مرحلة تعليمية إلى أخرى، بل ربما ازدادت حدة أحادية التفكير كلما ازدادت الخبرة التدريسية لبعض المعلمين، وربما تكرّس لدى كبار الأسماء من الأساتذة شعورهم بصواب آرائهم ومذاهبهم الفكرية كلما ارتقوا في سلم الدرجة الوظيفية أكثر، وبطل مفعول الدرجة العلمية تبعا لمتطلبات بعض الدرجات الوظيفية.

ويحدث أن تؤثر أحادية التفكير سلباً على مستوى الإنتاج في علاقات العمل، إذ يتسبب تسلط المدير أو انفراده بآرائه في تسيير العمل بضعف مستوى الإنتاج، لأن الموظفين يفقدون حماسهم للعمل حين لا يجدون مساحة يشاركون من خلالها في سيرورته، ويمكنهم بواسطته عرض آرائهم وإبداء وجهات نظرهم حتى إن خالفت وجهة نظر المدير، مما يسيّر العمل بوتيرة واحدة، دون أدنى قدرة على الإبداع والابتكار في أجواء لا تشجع عليهما.

إن الثقة بالنفس، والاعتداد بالرأي، والدفاع عن المعتقدات ووجهات النظر أمور محمودة، لكن يجب ألا تتجاوز حدود الاعتدال، وألا تعني إلغاء الآخرين، وتسفيه وجهات نظرهم، أو التقليل من قيمة معتقداتهم وآرائهم، أو محاولة إثبات خطأ ما يذهبون إليه ثم إقناعهم بصحة ما نذهب إليه، بل يجب أن يمتلك كل منا القدرة على تقبل الآخر كما هو، بكل اختلافاته عنا.

وبكل المساحات غير المشتركة الموجودة بيننا وبينه، وأن ندرك أن هذا الاختلاف هو سر سيرورة الحياة، وسر تجددها، لأن تشابهنا واشتراكنا في كل شيء سيصبغ الحياة بلون رمادي باهت، ويفقدها ألوانها التي تكتسبها بالتجدد والاختلاف، مع الإشارة إلى أن الآخر ليس من الضروري أن يكون شخصا غريبا، أو أجنبيا، لا يمتّ لنا بصلة، بل من الممكن أن يكون أخي الذي يعيش معي في المنزل نفسه وشاركني في معظم المصادر التي حصّلت من خلالها على مخزوني العلمي والثقافي.

ولكنه ليس نسخة مني ولا أنا نسخة منه، أو يمكن أن يكون الآخر جاري الذي لا تفصل منزله عن منزلي سوى بضع خطوات ويشترك معي منذ سنوات طويلة في أمور كثيرة بحكم الجيرة، ولكنه لا يشبهني فكريا ولا أشبهه. كما يمكن أن يكون الآخر زميل الدراسة الذي يشاطرني قاعة الدرس نفسها، ويسمع معي المعلومات ذاتها التي أسمعها فيستوعبها هو بطريقته، وأستوعبها أنا بطريقتي، ويجب علي أن أحترم طريقته في التفكير والاستيعاب ومعالجة الأمور كي أطالبه باحترام طريقتي في كل ذلك..

إن احترام الاختلاف هذا هو ما سيؤدي إلى إنشاء مجتمعات مفتوحة الآفاق، يقدم أفرادها آراءهم ويتقبلون آراء الآخرين، بشرط أن يصبح هذا طبعا أصيلا لدينا، لا مجرد كلام نردده نظريا، ونفشل في تحقيقه عملياً.