الأردن ومحاولات تقزيم دوره …

3 مارس 2023
الأردن ومحاولات تقزيم دوره …

د. مصطفى التل

لا نكون جانبنا الصواب إن قلنا أن جذور تقزيم دور الأردن بدأت من الداخل , لينعكس على الخارج المحيط , اختطّ الأردن منذ عقدين من الزمن نهج ادارة جديد في الداخل الأردني متوازٍ مع السياسة الخارجية , بحيث أصبح لكل وزارة سيادية أردنية او غير سيادية , هيكل موازِ لها في الادارة , تتحد الصلاحيات أحياناً , وتتقاطع وتتشابك أحايين أكثر , لتصل الى التعارض في النهايات والغايات والتنسيق , وزارة الطاقة معها هيئة الطاقة , وزارة النقل معها هيئات النقل المختلفة , والاتصالات وغيرها من هياكل متضخمة موازية لكل وزارة في الأردن .

الأصوات من داخل الأردن تعالت , وتصايحت , وتشابكت مع الرسمي , عارضت ووجّهت , بأن هذا النهج هو نهج تقزيم وليس نهج نهضة , ويجب تصحيح المسار , وتصحيح الإدارة الداخلية قبل الخارجية , فالأيدي التي تدير المشاهد كثيرة جدا , والمراجع إختفت من على الساحة الاردنية , أصبح المشهد الداخلي أشبه ما يكون بمجموعات داخل دولة , لكل مجموعة صلاحيات تفوق الوزارة الرئيسة , ومرجعيات كثيرة جدا , لم تعد هذه المجموعات تعرف الى أين توجه البوصلة , تاهت وسط (كثرة الطبّاخين ) للمشهد .

تفتّقت الذهنية لهذه الادارات الكثيرة جدا , والمتشابكة المتقاطعة , عن انشاء مجلس ( الأمن الوطني ) , صلاحياته أعلى من صلاحيات الحكومة نفسها التي هي السلطة التنفيذية واعلى من السلطة التشريعية , وأدنى من سلطات الملك نفسه .

هذا المشهد الذي أصبح مثار تشابك يومي على الساحة الاردنية الداخلية والخارجية على حد سواء , جعل الاهتمامات المركزية تنقسم الى ثلاث دوائر مختلفة متباينة بين السياسة الداخلية والخارجية للأردن .

الدائرة الأولى هي الدائرة الشعبية واهتماماتها وهمومها , حيث انشغلت هذه الدائرة بالهموم اليومية من العبء الاقتصادي وخدمات الدولة نفسها وواجباتها تجاه المواطن , مع الخوف على الأمن الاقتصادي الشعبي للفرد الأردني داخل وطنه , مع انشغالها بحقوق المواطن داخل دولته بحدها الأدنى ومدى توفرها .

الدائرة الثانية هي الدائرة الخارجية للسياسة الخارجية الاقليمية وانشغالها بالمحيط , لا من حيث العموم والمركزية , بل من حيث العلاقات مع كل دولة على حدة في الاقليم, بحيث أعطت هذه السياسة الخارجية في الاقليم , فرص التدخل لكل دولة على حدة في الشأن الأردني , وبقدر ضغطها الداخلي والخارجي , فخرجت لدينا صور علاقات متعددة مع مختلف دول الاقليم , فمن أزمات قاتلة مستترة وغير معلنة , الى حصار شبه صارم من بعض الدول على الأردن .

سمح نهج السياسة الخارجية الاقليمية الانفرادية غير العمومية والشاملة والمركزية , بالتبدل في الأدوار لكل دولة على حدة , مما انهك الجهود الخارجية مع تعدد تشابكاتها وابتعادها عن مركزية التحرك والبناء في الاقليم , بحكم العلاقات المنفردة غير المركزية في الاقليم .

والدائر الثالثة , هي الدائرة الدولية الاوسع , وتقسيم العلاقات فيه حسب العلاقات الفردية لكل دولة منفردة عن الاخرى , مما جعل الأردن هدف سهل لأي دولة عالمية تريد تحريك نفوذها بالمنطقة , وجعل الاردن مكبّل الفعل وردة الفعل , وتقوقعه نحو السياسة السلبية المعتمدة على ردة الفعل في أضيق حالاتها , مما أفقده المبادرة على الساحة العالمية وتأثيره .

بحيث انشغلت الدول الكبرى بمدى استراتيجية الأردن في المنطقة , وكيفية توظيف استراتيجيته لصالح أدوارها في هذه المنطقة , مما أفقد الاردن قدرته في استغلال استراتيجيته وتأثيرها على المستوى العالمي , بحيث أصبح متأثر بكل دولة كبرى تريد استغلال الاستراتيجية الاردنية في المنطقة لصالح برنامجها , لا من حيث قدرة الأردن على الايقاع والتحرك والتأثير .

بالعودة للداخل الاردني , نجد ان دستور المملكة الأردنية الهاشمية نصّ في مادته الأولى بأن نظام الحكم في الأردن ( نيابي ملكي وراثي ) , وان مصدر السلطات في الأردن هي الأمة , والأمة تمارس سلطاتها عن طريق النيابة , او مجلس الأمة بالمفهوم الأوسع , عن طريق منح ممثليها سلطة التمثيل النيابي والمحاسبة والتشريع, وكما هو متعارف عليه داخل الاردن مجلس النواب ومجلس الاعيان , بالكيفية التي استقر عليه العمل التشريعي والمحاسبي والرقابي في الأردن من حيث آلية تعيين مجلس الأعيان , وانتخاب مجلس النواب .

هذا هو خط الأردن الدستوري في ادارة المشهد الداخلي بمختلف طبقاته , والذي ينعكس على المشهد الخارجي كامتداد طبيعي للسياسة الداخلية التي تحدد مصالح الأردن العليا التي ينبغي الحفاظ عليها خارجيا , وتحقيق المكتسبات فيها , والدفاع عنها , من خلال رسم السياسات المختلفة .

في الآونة الاخيرة ومن خلال تتبع المشهد , يجد المواطن الأردني أن السلطة التنفيذية المتمثلة بالحكومة أصبحت جزءا من الأزمة , وانها جزء من أي أزمة تحيط بالأردن الداخلي , بالتوازي مع مجلس الأمة الذي فقد دوره في المحاسبة والرقابة لصالح دور حكومي بحت , بحيث أصبح مساند للحكومة في جميع تحركاتها , كأنه لا يعرف غير هذه الطريقة ليمارس دوره الدستوري وصلاحياته , مما جعله مجرد هيكل يضاف الى الهياكل الاخرى داخل الاردن , بدون فعالية دستورية ولو بحدها الأدنى .

فهو يبرر السياسات الحكومية , وينتقل من دور الرقابة والتشريع والمحاسبة الى دور البوق الاعلامي للحكومة نفسها , مما أوجد رفضا شعبيا عاما لإجراءات المجلس وسياسته , ونستطيع تلمس ذلك في الشارع الاردني دون أدنى جهد .

في ضوء هذه الأزمة المركبة في الداخل الأردني , وجد بعض رجال السلطة التنفيذية مخرجاً لجميع اخفاقاتهم , وقد يصل الى مخرج لفشل الأغلب في تحقيق أهداف وزارته وهيئاته العامة , والقيام عليها وتنفيذها خير قيام , فمن يحاسبه أو يراقبه إن كانت السلطة التشريعية توجد له الأعذار المختلفة , وتتهم الداخل الأردني بأنه عاطفي وغير ناضج على مستوى المشهد العام ..؟!!

لا بل وصل الأمر بالسلطة التنفيذية والتشريعية الى التحالف , بحجة تسهيل العمل بين السلطتين , وكأنّ تسهيل العمل بين السلطتين لا يتم إلا بالتبرير لبعضهما البعض , ومجاملة كل سلطة للأخرى على حساب الداخل الأردني وأزماته .!!

في ظل هذا المشهد الداخلي المؤدي بالضرورة الى التقزيم للدور الأردني الداخلي والخارجي على حد سواء , كان المخرج هو ( مجلس الأمن الوطني ) , الذي يعلو بصلاحياته على السلطة التنفيذية والتشريعية , وبحد أدنى من سلطات الملك نفسه , لضبط التداخلات بين المجموعات داخل الاردن , من خلال الاختصاص بالشؤون العليا للدولة الاردنية , والتي من المفترض دستوريا أن يتم رسمها من خلال السلطة التشريعية ويقوم على تنفيذها السلطة التنفيذية تحت رقابة السلطة التشريعية نفسها .

وهنا نطرح للعموم : اين دور هذا المجلس في كل الأزمات العاصفة التي تحيط بالأردن حاليا , سواء داخليا أو خارجيا ..؟!!

وخاصة ان المجلس يملك صلاحيات تنفيذية وليست استشارية , في ظل غياب مجلس الامة عن المشهد الداخلي , وتصارعه على مكتسبات خدمية يصوّرها انها الانجاز والقمة في العطاء , فالمجلس لم يتابع الانجاز الحكومي ان وجد , ولم يؤشّر على التقصير , ولم يُحاسب , ولم يراجع أي مؤشر أداء للسلطة التنفيذية في الأردن , ولم يبحث في مسألة تقزيم الاردن ودوره على الساحة الاقليمية ولا العالمية , ولم يشتبك مع تعدد ( الطبّاخين ) داخل المشهد الأردني الداخلي ..!!!

من هنا نستطيع تلمّس تقزيم دور الأردن على الساحة الاقليمية والعالمية وحتى في المشهد الداخلي .

ويبقى السؤال مفتوح : ما جدوى وجود مجلس الأمة كهيكل اضافي لمجموع الهياكل الأخرى داخل الاردن يدون فائدة ملموسة ؟!