عيد ميلاد مجيد ، وعام جديد سعيد

23 ديسمبر 2022
عيد ميلاد مجيد ، وعام جديد سعيد

 

أ.د زيدان كفافي

يحتفل العالم المسيحي هذه الأيام بعيد مولد السيد المسيح عيسى عليه السلام، ويتلوه بعد أيام احتفالات العالم أجمع ببدء عام ميلادي جديد. وحيث أن المناسبتين ترتبطين بمولد  المعلم والمخلص سيدنا عيسى عليه السلام، فضلت أن تتحدث هذه الخاطرة حول المعتقد والدين. يبدأ الكلام حول الانسان الذي يحمل المعتقد في عقله وقلبه، فمنذ أن خطى هذا الانسان خطواته الأولى على وجه البسيطة حار في أمور كثيرة،  لذا وضع أسئلة حاول الإجابة عليها، فاهتدى إلى الإجابة حول بعضها، لكنه لم يهتدي للأخرى. وكان من هذه الأسئلة، على سبيل المثال لا الحصر،  كيف أتى الإنسان إلى هذا الكون؟ وماذا يحصل له بعد مماته؟ 

جاءته الإجابات من خلال المعتقدات الأولى والديانات السماوية، ومن هنا أخذ يعمل على أداء الواجبات المطلوبة منه في الدنيا ليعيش حياة آخرة سعيدة ومريحة. ونبدأ الكلام مع الانسان الذي عاش متجولاً، وصياداً، وجامعاً لقوته، فهذا الانسان وفرت له الطبيعة بخيراتها مأكله وشربه لأطول مدة عاشتها البشرية (قبل حوالي مليوني سنة وأكثر بقليل في الأردن). وعلى الرغم من العيش على حساب الطبيعة إلاّ أن الخطر كان يتهدده من قبل الحيوانات المفترسة ، ومظاهر الطبيعة الأخرى من برد وحر.  حاول أن يتقرب لها برسمها على جدران الكهوف، خاصة في أوروبا (إسبانيا وفرنسا)، لكن هل عدّها من القوى التي لا يستطيع هزيمتها فتقرب لها…

وأشد ما حيّره هو كيفية التناسل، والتكاثر الانساني. فماذا فعل؟ وجد أن المرأة هي أصل هذا التكاثر، فنحت لها دمى أنثوية تظهرها في حالة حمل، وكان هذا قبل أكثر من ثلاثين ألف عام. وخير مثال على هذا دمية “فيلندورف” التي عثر عليها في المكان الذي يحمل اسم الدمية في النمسا. ونظراً لعدم التدوين في تلك الحقبة السحيقة لا نستطيع الحكم على المعتقد الديني الذي مارسه. لكن الخوف من حياة ما بعد الموت هي الأمر الذي دفعه للتفكر فيها.

دمية فيلندورف عمرها حوالي 30.000 ألف سنة(صورة من الانترنت) 

وبعد أن تغير حال الدنيا، وانقلبت موازينها المناخية قبل حوالي 12.000 ألف سنة ، وجد الإنسان أنه مرتبط بمكان واحد، فكان الاستقرار والزراعة  قبل أكثر من حوالي 10.000 آلاف سنة، وتبعه تدجين الحيوانات. من هنا ارتبطت حياة الانسان وديمومته بالطبيعة بمظاهرها المختلفة من برق، ورعد، ومطر، ورياح، وشمس، وقمر. فكان أن رأى فيها أنها مصدر حياته ولا بد له من عبادتها. فصنع دمى ترمز إلى هذا القوى العظمى التي لا يستطيع الوصول إليها، لكنه حار في كينونتها، وقوتها.  وبدأ الناس كل في بيته يتقرب بممارسات تختلف عن الآخر إلى هذا القوى، والتي كانت بشكل أو بآخر، هي الآلهة الأولى. 

دمى حيوانية م(عمرها أكثر من تسعة آلاف عام)  من موقع عين غزال مغروس بأجسادها نصلات صوانية 

( ربما كانت تقدم أضحيات؟)

 

تماثيل  (ربما تمثل معبودات ؟) من قرية عين غزال عمرها حوالي 9.000 آلاف عام

ومن ثم وبعد أن تكاثر الناس في هذه المستقرات البشرية، وتشكلت العائلات والقبائل، أصبح البيت الشخصي لا يفي بغرض التعبد للمعبود، فكان المعبد الأول “بيت المعبود”. وإذا كانت أولى بيوت المعبود قد عثر عليها في “غوبكلي تبه” بجنوب شرقي تركيا الحالية، وتعود لأكثر من عشرة آلاف عام، فإننا في الآردن لنا في أسلافنا في قرية عين غزال خير مثال على وجود “بيت المعبود” الأول. حيث كشف النقاب عن مجموعة منها، بنيت بأشكال مختلفة.

 

مبنيان  للتعبد في موقع عين غزال الأول بزوايا قائمة والثاني مستدير الشكل  عمرهما أكثر من ثمانية آلاف عام

ومن قال لنا أن هؤلاء الفلاحين الأردنيين الأوائل، أصحاب الفكر الديني المتقدم، كانوا مجرد أناس بسطاء، فلحوا الأرض، ورعوا الأغنام فقط. لا…لقد قام هؤلاء بتقديم الأضاحي الحيوانية، كما أنهم بقوا يقدسون المرأة الحامل. وتطور الأمر خلال الألفين الخامس والرابع قبل الميلاد، حيث مارس سكان تليلات الغسول، وهو موقع يبعد حوالي خمسة كيلومترات إلى الشمال الشرقي من البحر الميت، وعلى مقربة من مغطس المسيح، السحر. حيث عثر المنقبون في الموقع على رسومات مرسومة على جدران المعبد تمثل أناس، وحيوانات خرافية، ومشاهد غير مفهومة. من هنا أستدل على الحالة الفكرية الدينية لهؤلاء الناس.  لقد أقام الفلاحون الأوائل “بيت المعبود” في الأغوار الأردنية  ورسموا على جدرانه رسومات ربما تكون ذات دلالات عقائدية. 

رسمة جدارية لموكب  ديني من موقع تليلات الغسول (5كم شمال شرقي البحر الميت)  ، بعض الأشكال المحورة تلبس أقنعة (اللوحة معروضة في متحف الأردن)

 

وخلال النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد وصل الناس في بلاد الشرق الأدنى القديم إلى حالة حضارية متقدمة جداً، فتطورت القرية إلى مدينة، وتشكلت المراكز الحضارية التي سيطرت على مناطق واسعة تحيط بها. ومن أولى وأهم هذه الحواضر موقع الوركاء بجنوبي العراق ، وهو من أشهر المدن الأولى  السومرية  القديمة ن وكانت مأهولة بالسكان منذ الألف الرابع قبل الميلاد  وحتى القرن الخامس الميلادي. وتعود شهرتها لأن بداية معرفة الكتابة انطلقت منها، وكذلك كتابة الأدب، والديانة. ومن أهم آثار الوركاء زقورة (إينانا) التي ترتفع 16 متراً عن مستوى سطح الأرض، وبنيت فوق قاعدة  مربعة الشكل تبلغ أبعادها 60م في 60 متراً، وشيدت في زمن الملك أورنمو (حوالي 2100 قبل الميلاد).  وكان في العادة أن يبنى في قمة الزقورة معبد للإله ، وبنظرهم كان هذا أقرب إلى السماء…

زقورة  (إينانا) الوركاء بالقرب من مدينة السماوة بجنوبي العراق

ومن الآثار الرافدية السومرية الهامة الوعاء النذري المسمى “إناء الوركاء”، ويبلغ عمره أكثر من 5000 عام. وهو عبارة عن مزهرية من المرمر  مهداة للإلهة السومرية  “إنيانا”  وعثر عليها بمجمع للمعابد  في مدينة “أور” في محافظة المثنى بجنوب العراق.

 

مزهرية “الوركاء إينانا”، ولوحة مكبرة للشريط العلوي

وحفر على سطح المزهرية الخارجي أربعة أفاريز ، هي من الأسفل للأعلى: يصف الإفريز الأسفل نمو النباتات  في منطقة شط العرب، ويليه شريط حفر فيه أشكال حيوانات ، مثل الثور والأغنام مما يدل على طبيعة حياة الناس الريفية ،  يعلوه شريط ثالث نقش فيه رجال شبه عراة يحملون سلالاً  (أوعية) مليئة بالمنتجات الزراعية خاصة الفاكهة،  ودلاءً وجراراً مليئة بالسوائل لتقديمها قرباناً للآلهة. أما في الشريط العلوي  فهناك لوحة محفورة  تمثل الإلهة “إينانا” التي تعدُّ واحدةً من الآلهة الرئيسية السومرية، وعرفت عند الأكاديين وما بعدهم باسم “عشتار”، وحفر بالقرب من صورتها حزمتين من القصب وخلفاها وعاء مليء بالفاكهة والحبوب. وللعلم فإن هذه المزهرية كانت واحدة من آلاف القطع الأثرية التي نهبت من المتحف العراقي نتيجة لغزو العراق في عام 2003م، وعند محاولة السارقين سرقتها سقطت أرضاً وتحطمت، لكنها وحمداً لله أعادها سارقوها إلى المتحف.  

يعدّ جنوب العراق أصل الحضارة ومنبع الديانات السماوية ، خاصة أننا بدأنا نعرف أسماء الآلهة نتيجة لمعرفتنا للكتابة، فأصبحنا نسمي الأشياء بسمياتها، وبمعرفتنا بأسماء الآلهة أنتقلنا من مصطلح “المعبود” لمسمى “الإله”.  ولا يفوتنا من القول أن أصل سيدنا إبراهيم “أبرام” هو من مدينة “أور” القريبة من الوركاء، وهذا يؤشر على أن جنوبي العراق هو أصل الحضارة والدين. كذلك نذكر بأن سيدنا إبراهيم وإبنه سيدنا اسماعيل هما من رفع قواعد الكعبة المشرفة. 

أصبح لزاماً، ومن الشروط الضرورية لإضفاء على أي مكان صفة مدينة، ضرورة وجود معبد رئيسي، ومعابد أخرى فيه يبنى في وسطها. والمهم ليس البناء، بقدر من يقوم على خدمة هذا المكان، وهم الكهنة. لكن ما هو دور المعبد “بيت المعبود” في كل هذا الأمر؟

أصبح المعبد، صاحب الكلمة العليا في المجتمع، فهو الذي يتحكم بالاقتصاد، والناس. وتشير النصوص السومرية أن كهنة المعبد هم الذين كانوا يخصصوا الوظائف للناس، والمعبد هو الذي يجمع المحصول الزراعي والانتاج الحيواني ويوزعه على الناس. وللمعلومة أشارت الكتابات السومرية على الرقم الطينية إلى كمية التبرعات وكيفتها التي تبرع بها الناس للمعبد.  فمن هنا كان ارتباط المجتمع بالمعبد كبيراً، ولا انفكاك عنه. ووجد القائمون على المعبد أنه لا بد من توفير الحماية اللازمة لهم وللمعبد، فكان انشاء الجيش. بعدها أصبح لزاماً، على سبيل المثال لا الحصر، على الملك السومري أن يأخذ مباركة الإله قبل أن يسمح له بتولي سلطاته، أي أنه يتولى سلطاته بأمر من الإله. وحيث أن الوقت لا يسمح لي بمزيد من الإطالة، أقول أن ملك مدينة كيش السومرية، وقبل حوالي أربعة آلاف عام، ذكر أن الوحي قد نزل عليه من السماء وقال أنه هو الكاهن، والملك في نفس الوقت. 

تميزت المجتمعات المدنية بتعدد الآلهة، وخصص لكل إله معبد، ورمز. ومثل هذا ينسحب على الميثولوجيا الكنعانية، واليونانية. إذاً مع ظهور المدنية، حصل تقدم فكري ديني هائل، وانعكس هذا في طبيعة الآثار المكتشفة، وحتى في التصور الديني. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يرى اللاهوتيون أن نبي الله إبراهيم قد جاء إلى بلاد الشام من جنوبي العراق في حوالي 1900 قبل الميلاد.، أي انتقل نعه الفكر الديني حيثما حلّ وارتحل. كما أن الفرعون المصري “أخناتون” دعى إلى وحدانية  الإله في حوالي 1350 قبل الميلاد. ليس هذا فقط، فإن الديانة الموسوية انطلقت أيضاً من مصر، ويقدر الباحثون تاريخ خروج موسى من مصر في حوالي 1200 قبل الميلاد. كما أن عالماً ألمانياً خرج علينا بفكرة أن النبي “موسى” هو “أخناتون” نفسه. ومن هنا بدأت الديانات السماوية، والتي ترتبط بعبادة إله واحد. سادت الديانة الموسوية بعض مناطق جنوبي بلاد الشام، جنباً إلى جنب مع الديانات الوثنية. وحسب رأي التوراة فإن أول بيت لله في الديانة اليهودية كانت “خيمة”.

بعد قدوم الاسكندر المكدوني في حوالي 332 قبل الميلاد إلى الشرق، واختلاط الحضارتين الغربية والشرقية، رأت بعض الطوائف اليهودية أن شرقيتها في خطر، ودعت إلى إصلاح الحال. وبناء عليه اعتزلت طائفة منهم (الإسينيين) في مناطق وعرة على شاطئ البحر الميت الغربي، وربما (والله أعلم) أن خرج من بينهم السيد المسيح والنبي يحيى “يوحنا المعمدان” عليهما السلام . وإذا كانت فلسطين هي المكان الذي ولد، وترعرع فيه السيد المسيح عليه السلام، فإن الأردن هي الأرض التي حضنت الديانة المسيحية بين ذراعيها، وحسبي أن الأنباط هم من تحملوا عبء حماية هذه الديانة. وبدأ المؤمنون بالمسيحية ببناء بيوت الله في كل مكان، فانتشرت الكنائس على طول الأردن وعرضه. وحسبي أن السيد المسيح، وتلاميذه، وأتباعه، وجدوا في الأردن ملاذاً عندما طاردتهم الجيوش الرومانية، وجدوا الأمن فجاؤوا إلى طبقة فحل وسكنوا فيها في حوالي 70 ميلادي. 

بشرت المسيحية “أتباع المعلم”، بقدوم نبي الله المصطفى، وهذا ما ذكرته مخطوطات البحر الميت. وأشار الراهب “بحيرى” بأصبع البنان إلى سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) بأنه يحمل صفات النبوة. وكان أول من خاطبهم النبي محمد، وبشرهم بدعوته هم المسيحيين. فأرسل الرسل إلى النجاشي في الحبشة، وملك الروم في بلاد الشام. وعندما انتقلت الدعوة من الكلمة إلى السيف، كان أول من ساعد المسلمين في حروبهم ضد الروم، هم المسيحيون العرب. الذين رأوا في هؤلاء القادمين من الجزيرة العربية أخوة لهم، فزودوهم بكل ما يستطيعون من طعام، وشراب. 

وانتشر الاسلام، بعد انتصار المسلمين في معركة اليرموك عام 636م، في كل بلاد الشام. وردَّ المسلمون لإخوانهم المسيحيين المعروف بمثله، فسمحوا لهم بالاستمرار بممارسة طقوسهم الدينية، وبناء كنائسهم. وما اكتشف من كنائس حول مدينة مادبا خير دليل على ذلك. ويكفيني قولاً أن راهب القدس “صوفرونيوس” سلم مفاتيح القدس للخليفة عمر بن الخطاب سلماً. ولا ننسى أن خليفة المسلمين عمر رفض أن يصلى في كنيسة القيامة خوفاً عليها مما يتبع، فانتحى مكاناً بعيداً وصلى به، فكان جامع عمر في القدس، وبقيت أجراس الكنائس تدق في القدس، ترد عليها أصوات المؤذنين في أخوة صادقة. وبقي الحال على ما هو، والحمد لله، حتى الوقت الحاضر. ومن لم يصدقني فليزر  اقدس الشريف وباقي المدن الأردنية والفلسطينية  حيث تتلاصق بيوت الله في مكان واحد.

أرجو أن يتسع صدركم لقولي، بأنني أرى أن الديانات منذ  أن بعث الله سبحانه وتعالى آدم وحتى اليوم  لا تختلف بمكنونها كثيراً، قدر اختلافها بطرق تعبدها، وممارسة شعائرها. فمفهوم الإله ، أي وجود قوة إلهية عظمى هي التي أوجدت هذا الكون وتسيّره، موجود لديها جميعها. كما أن بيت الله هو: المعبد، والكنيس، والكنيسة، والمسجد، والجامع، كلها بنيت تقرباً لله وتمارس فيها العبادات الجماعية . فإن اختلفت المفاهيم فالهدف واحد. ومن هنا أرى أن هذه الخاطرة تصب في قناة الصالح العام، وتؤكد على مفاهيم تاريخية دينية. ولنا في رسول الله محمد “صلعم” وأهله من آل هاشم قدوة لنا.

وسنة ميلادية جديدة سعيدة ، وإن شاء الله نحتفل برأس السنة الهجرية والجميع بألف خير.

أ.د. زيدان عبدالكافي كفافي

عمّان في 22/ 12/ 2022م.

 

مراجع مقترحة:

خلقنا الله جميعاً من ذكر وأنثى (آدم وحواء)، وخلقنا من تراب ومرجعنا للتراب،  فلنحب بعضنا بعضاً على الرغم من اختلاف الجنس والعرق واللون والدين.