التطور العلمي بين مطرقة السياسة وسندان الفلسفة

7 نوفمبر 2022
التطور العلمي بين مطرقة السياسة وسندان الفلسفة

بقلم : أ.د. طالب أبو شرار

الفضول سمة لا نختص بها نحن بني البشر بل نتشارك مع العديد من الكائنات الحية في رغبة جلاء غموض الأمور التي قد تكون بسيطة جدا فتستقطب اهتمام كائنات تفتقر الى ذكائنا البشري كالطيور أو الحيوانات الثديية وقد تكون أكثر تعقيدا فلا تبدو كأحجية لبقية الكائنات الحية بل لغالبية بني البشر. في مثل هذه الحالة تمر أجيال تلو أجيال مرور الكرام على مثل تلك الظواهر دون تساؤل حول كنهها أو محاولة لتفسيرها أو سبر غورها. قليلون هم بنو البشر الذين يجهدون تفكيرا وربما تجريبا في محاولة سبر غور إحدى الظواهر. عندما يلف الغموض ظاهرة قد تكون غير ذات شأن يمس أساسيات الحياة الإنسانية تنغمس حفنة من المفكرين في اجتهاد مرهق وتفكير عميق في محاولة لفك أسرار مثل ذلك الغموض. أحيانا يكون الغموض عميقا ومعقدا لا يمكن لأدوات التجريب المتوفرة لمثل أولئك المفكرين من المساعدة في فك طلاسمه. هنا تبدأ محاولة، ربما أكثر تعقيدا، لتقديم تفسير “فلسفي” هو نتاج خبرات وتجارب مثل أولئك المجتهدين. في الحقيقة، هذا هو جوهر الفكر الفلسفي الذي ينحى باتجاه التأويل والعواطف والخبرات الشخصية والمجتمعية. ولأن كل ما سبق يتفاوت من فرد لآخر ومن مجتمع لمجتمع آخر، لكل منهما خصائص تاريخية وحضارية مختلفة، فإن التأويلات والفلسفات ستختلف حتما بين حضارة وأخرى لكنها تصطبغ بلون شبه موحد ضمن الحضارة الواحدة رغم تفاوت الزمن أو الظروف.

لتوضيح ذلك كان للإغريق ومن ورث مجدهم من رومان نظرة فلسفية تتفاوت في ظاهرها لكنها تتفق في جوهرها. ينطبق ذلك أيضا على سلسلة حضارات بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام ذات السمة الإنسانية المشتركة. الأمثلة على ذلك كثيرة لكن يمكننا في هذا العرض السريع أن نشير الى دوائر حضارية محددة كالحضارة الصينية أو الهندوسية أو شمال أوروبا بل وحضارات العالم الجديد في المكسيك وأمريكا الجنوبية. هذا التفاوت في الرؤى الإنسانية فلسفيا لا ينطبق على العلوم والظواهر الطبيعية التي لا يمكن أن يصمد تفسيرها دون المدخل العلمي والمنطقي الذي يمكن تكراره وجني ذات النتائج رغم اختلاف الظروف مكانيا أو زمانيا.

هذا هو الفارق إذن بين العلم والفلسفة: هنالك قانون جاذبية واحد عبر هذا الكون الفسيح وهناك علاقة تربط المادة والطاقة بقانون واحد وهناك آلاف الأمثلة العلمية.

وعلى نقيض العلم، تتربع الفلسفة على عروش من الحماس الإنساني المتضاد الى حد الاقتتال حتى الموت مع أو ضد هذا المبدأ أو تلك الأيديولوجية. عبر التاريخ، لم يتقاتل الناس حتى الموت انتصارا لقانون أو نظرية علمية. إذن كيف يتحرك ككلاهما عبر الزمن؟ باستثناء حالات نادرة لم تتقدم الفلسفة بناء على طلب رسمي من سلطة. ربما انبرى بعض المتفلسفين لتطويع أيديولوجيات تخدم فكرة سياسية ما تماما كما كان حال التنظير الشيوعي أو النازي أو الرأسمالي المعاصر لكن، في غالب الأحيان، تنمو فلسفة أو أيديولوجية ما في بيئة من التفكير الفلسفي المحض في عمق الوعي والهم الإنسانيين لأشخاص هم رواد المثالية الإنسانية. وليتمكن أولئك الرواد من حالة صفاء الذهن التي تمكنهم من التفكير الاستشرافي كان معظمهم ميالا للعزلة عن صخب مجتمعاتهم مكرسين جل وقتهم للتفكير في هذا الكون الفسيح وفي ماهية الإنسان، بدايته وعيشه ونهايته دونما اعتبار لجماهيرية عابرة أو لبعد غوغائي Demagogues. هناك أمثلة كثيرة لمثل تلك الحالة يستطيع أي قارئ أن يستعرض بعضها خاصة تلك التي اجتذبت اتباعا يعدون بمئات الملايين عبر الأزمان خاصة في الثقافات الآسيوية، شرقها وغربها.

وعلى نقيض الفلسفة، لا يمكن للنشاط العلمي أن يزدهر دونما رعاية مؤسسية توفر الظروف الملائمة للإبداع الإنساني علميا.

مثل تلك الظروف تتطلب استقرارا مجتمعيا ورخاء اقتصاديا ورؤى استشرافية لما تريد أنظمة الحكم إنجازه في المدى القريب أو البعيد.

بدون تلك الرؤى لن تكون هناك حاضنة للنهوض العلمي ولن يكون هناك توجيه نحو هدف أو أهداف محددة.

في هذا المقام يمكننا الاستشهاد بعدد غبر محدود من الأمثلة التي تبين الكيفية التي تطورت عبرها معارفنا في حقول عديدة. من أهم الأمثلة في هذا السياق “الثورة الخضراء”.

ففي فترة خمسينات وستينات القرن العشرين أجمعت دول عديدة وذات وزن على ضرورة اجتراح حلول جذرية لمعضلة الجوع العالمي. لقد تضافرت جهود تلك الدول خاصة الهند وباكستان والمكسيك والولايات المتحدة وغيرها في تجنيد مئات العلماء الذين انخرطوا في نشاط محموم لتطوير معارفنا، كل في مجاله، من أجل غاية نهائية هي زيادة انتاج الغذاء. في الحقيقة ما كان لتلك النتيجة الباهرة أن تتحقق بدون الدعم والرعاية والتوجيه والإنفاق المالي من قبل الدول المعنية. على جانب آخر، ربما تجدر الإشارة في هذا الصدد الى أن الصراعات العسكرية أو التحشيد العسكري كانا وراء معظم الإنجازات العلمية التي كانت تطبيقاتها المبكرة عسكرية الطابع لكنها سرعان ما اتخذت طابعا مدنيا تجاريا في وقت لاحق.

دعوني أسوق بعض الأمثلة السريعة في هذا الصدد. في أعقاب الاستخدام المروع للمواد الكيماوية خلال الحرب العالمية الأولى جهدت الدول المتصارعة في البحث عن آليات تبطل مفعول الغازات السامة أو المواد الكيماوية الذائبة في المياه.

ولتحقيق ذلك تطورت نظريات وأنماط فيزيائية-كيميائية-رياضية تبين كميا العلاقة بين تركيز الغاز السام في الهواء أو المركبات أو العناصر السامة الذائبة في الماء وقدرة المرشحات المختلفة على امتزاز تلك المواد.

وبتشخيص العلاقات السابقة نحى البحث العلمي منحى آخر باتجاه البحث أو تطوير ممتزات أكثر كفاءة من تلك المتوفرة في تلكم الأوقات. لقد وجدت تلك النظريات والتطبيقات طريقها باتجاه السوق فشهدنا وما نزال نشهد منتجات لا حصر لها تستخدم في تنقية الهواء والماء بل طورنا أجهزة تحليل دقيقة جدا لتقدير تراكيز الملوثات في الماء والهواء من أهمها ما يعرف بالإنجليزية High Performance Liquid Chromatograph  و High Performance Gas Chromatograph.

وبنفس السوية خصصت ميزانيات هائلة وجهود بحثية أسطورية في مجالات الفيزياء والرياضيات وعلوم الفضاء المختلفة كالصواريخ وطب الفضاء من أجل تحقيق وعد قطعه على نفسه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الراحل جون ف. كنيدي بإرسال انسان الى القمر وعودته سالما الى الأرض قبل نهاية عقد الستينات من القرن العشرين. كان ذلك في حمأة سباق الفضاء بين الأمريكان والإتحاد السوفيتي الذين سجلوا سبقا بإرسالهم إنسانا في رحلة دورانية حول الأرض وعودته سالما. كان ذلك هو يوري جاجارين رائد الفضاء الأول في رحلته الشهيرة في 27 أذار من العام 1968.

ثم حقق الأمريكان حلمهم بالفوز بالسباق بإنجاز عملية هبوط انسان على القمر وعودته سالما الى كوكبنا عندما حطت مركبة الفضاء Apollo Lunar Module Eagle في العشرين من تموز 1969 على سطح القمر بقيادة (Edwin Aldrin) إدوين ألدرين ثم بعد نحو ست ساعات من التريث هبط منها زميله (Neil Armstrong) نيل آرم سترونج الذي أصبح أول إنسان يخطو على سطح القمر. كان ذلك في الحادي والعشرين من تموز من العام 1969.

من الواضح هنا أن تلك الإنجازات العلمية في كافة المجالات ما كان لها أن تتحقق في غياب إرادات سياسية عنونت أولويات الدول المتنافسة. من المهم أيضا أن أشير الى ما تمخضت عنه تلك الإنجازات من تطبيقات متعددة في المجالات الصناعية والزراعية والتجارية المختلفة والتي ننعم بمزاياها هذه الأيام كالهاتف الخلوي والتواصل السمعي والمرئي مع الأهل والمعارف عبر الأقمار الصناعية وتطبيقات تحديد المواقع التي تمكن المرء من الوصول الى أي عنوان دون عناء وغير ذلك الكثير. أجل، لقد تحققت تلك الإنجازات في مناخ من التنافس الدولي والرعايات الحكومية أي أن محرك التطوير العلمي ذاك كان الرؤى السياسية المسبقة. بمعنى آخر، لو تركت للعلماء حرية البحث العلمي ربما ما كان من الممكن انجاز ما تم إنجازه. للتدليل على ذلك، لا تحظى الفلسفة بذات القدر من الرعاية الرسمية أي أن حرية التفكير الفلسفي ليست بحاجة الى حشد إمكانيات مادية أو لوجستية خاصة. النشاط الفلسفي هو نشاط فردي وذهني أي أنه نشاط تفكيري مستقل. مثل ذاك التفكير قد يكون حافزا معنويا للباحثين لكنه، في جانبه المظلم، قد يكون ذا تأثير سلبي مدمر ومعيق للتطور العلمي تحت ذرائع ومسميات مختلفة. تتأتى الخطورة في مثل الحالات السابقة عند احتكار عملية التفكير الاستشرافي من قبل حفنة من المجتهدين الذين ينصبون أنفسهم حراسا على بوابة المستقبل البشري.

مثل أولئك الحراس (وهم في واقع الأمر من خارج الطيف العلمي) قد يحولون دون الحاق الأذى بمسيرة البشرية في جانب لكنهم يلحقون بها ضررا فادحا في حالات تجريم أو تحريم بعض الأنشطة العلمية دونما نقاش مستفيض مع الباحثين أنفسهم. إنهم بذلك يرتضون لأنفسهم أن يكونوا السندان الذي يجعل من مطرقة الساسة أداة حسم الاتجاه الذي تتحرك نحوه البشرية دون وعي. في هذا المجال، هنالك أمثلة لا حصر لها كالتصريحات التي تشكك وتخوف البشر من استهلاك المحاصيل المعدلة وراثيا بحجج غير علمية أو التشريعات التي تحرم أو تجرم عمليات البحث والتطوير في مجال زراعة المورثات البشرية في منظومة مورثات حيوانية غير إنسانية لغايات الحصول على أعضاء بشرية سليمة وفتية لغايات استبدالها بمثيلاتها البشرية التالفة كزراعة مورثات قلب بشري في منظومة مورثات خنزير لتنتج قلبا بشريا نما في جوف جنين غير بشري هو خنزير (لتشابه صفاته التشريحية والوظيفية مع نظائرها الإنسانية) أو المحاولات الأكثر جرأة كنقل مورثات نباتية في منظومة مورثات حيوانية أو العكس أو تطوير مورثات بكتيرية تنتج بروتينا حيوانيا شبيها باللحوم الحيوانية لكنها مصنعة من مواد أولية أو مركبات كيميائية بواسطة تلك البكتيريا المتخصصة. في الغالب تكون مثل تلك التشريعات نتاج اجتهادات فلسفية لا تأخذ بعين الاعتبار منطق الباحثين العلميين أنفسهم وهي بذلك نتاج سطوة الفلسفة على الحياض العلمية. وبنفس السوية يمكننا اقتباس الحالات التي تصمت فيها أصوات الفلسفة عن الجأر بإدانة الانحراف بقدسية الرسالة المعرفية نحو أهداف شريرة. ربما يكون المثال الصارخ في هذا الصدد هو صمت الضمائر الإنسانية عن إدانة وتجريم مفتعلي جحيم دانتي الذي جعلته الولايات المتحدة الأمريكية جحيما حقيقيا على الأرض مستهلة بذلك عصر الرعب النووي عقب القائها قنبلتيها الذريتين على مدينتي هيروشيما وناجا زاكي اليابانيتين في السادس والتاسع من آب عام 1945.