مفردات غير ذات دلالة

27 أكتوبر 2022
مفردات غير ذات دلالة

بقلم : أ.د. طالب أبو شرار

عندما نقرأ معظم الصحف أو نستمع الى غالبية محطات التلفزة أو الإذاعات الغربية بل حتى الأدبيات الأكاديمية نمر مرور الكرام على مفردات تتناقض مع مفاهيمنا الأخلاقية أو التاريخية أو الوطنية. في واقع الحال تتم صياغة أو انتقاء تلك المفردات من قبل خبراء في الاستشراق وبكثير من العناية النفسية الموجهة من أجل ترويض أذهاننا لقبول مقولات تتناقض تناقضا تاما مع مسلمات تخص هويتنا الإنسانية والتاريخية والوطنية. التناقض هنا مقصود. إنه موجه لنفي ما نؤمن به وما درجنا عليه تمهيدا لطرح النقيض الذي يجعل منا فريسة سائغة يسهل تشكيلها وفق مقولات القوى الغربية الغاشمة. إنه تماما كمسح السبورة تمهيدا لكتابة مادة جديدة لا تمكن كتابتها بوجود الكتابة السابقة. في هذا الصدد، هنالك الكثير من المفارقات، لننظر مثلا الى بعض المسميات الغربية مثل اسم مدينة القدس التي لا تذكر بهذا المنطوق بل “أورشليم”. وبالرغم من أن “أورشليم” هو اسم مركب مشتق من ثقافتنا وتاريخنا ويعني “مدينة” أي “أور” وهو اسم موقع ما يزال قائما في جنوب العراق ويقال إنه الموطن الأول للنبي إبراهيم قبل رحيله الى بلاد كنعان. و “سلام” أي “شليم” الا أن المقصود باستخدام الاسم القديم، وليس التوراتي كما يدعون، هو الطعن في شرعية تعريفنا لأنفسنا وتمازجنا العضوي مع بلادنا وترابنا الوطني. مثال ذلك الكثير الكثير مثل “جبل الهيكل-Temple Mount” أي موقع المسجد الأقصى المبارك أو بيت شان “بيت الإله الكنعاني شأن” عوضا عن التخفيف اللفظي الدارج لكلمة “بيسان” أو كلمة “إيلات” أو “إيله” بديلا عن “العقبة” التي تحولنا اليها حديثا دون نكران لاسمها التاريخي الذي كان يعني كل جنوب بلاد الشام أو فلسطين كما ورد في العهدة العمرية عند الفتح الإسلامي لبلاد الشام في أواخر نيسان من سنة 737 ” أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضارّ أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود. وعلى أهل إيلياء أن يُعطوا الجزية كما يُعطي أهل المدائن. وعليهم أن يُخرِجوا منها الروم واللصوص.”
من المؤسف حقا أن الكثير من مثقفينا يسهل اصطيادهم ومن ثم تجنيدهم لخدمة الأهداف السابقة تحت مسميات مختلفة مثل “حقوق الإنسان” و “حقوق المرأة” و “حقوق المثليين” و “المساواة بين الجنسين” وما الى ذلك من بدع لن تساهم في عملية نهوضنا الحضاري بل تهوى بنا الى مهالك قد لا تبدو واضحة لعيان العامة من مواطنينا. للتوضيح، لم نسمع قط بحملة غربية لنشر ثقافة الإبداع العلمي كتمويل مشروع يهدف الى تمكين المتميزين من طلبة المدارس من انجاز اختراعات تبادرت الى أذهانهم لكن العوز وضيق ذات اليد همشا تلك الأحلام الرائعة. لم نسمع أيضا بمشاريع تمكن أوائل الثانوية العامة من الالتحاق بجامعات غربية مرموقة. كل الدعوات السابقة بل واشتراطها لدعم مشاريع “تنمية” استعراضية ليست سوى بدع غربية لا تهدف الا لتقويض دعائم المجتمعات العربية المسلمة وجعلها لقمة سائغة سهلة التشكيل وفق أهواء تلك القوى العابثة بمصائرنا. للتذكير فقط، نحن لسنا بحاجة لحفظ حقوق المرأة المصانة بتشريعنا الإسلامي وبثقافتنا التي تمجد تكريم المرأة وتعيب المساس بكرامتها. وعلى نقيض ثقافتنا، فإن انتهاك حقوق المرأة وكرامتها بل وشرفها هي سلوكيات موثقة في المجتمعات الغربية. دعوني أذكركم هنا بممارسة شائنة كانت شائعة في بريطانيا في العصور الوسطى وهي حق “الليلة الأولى” وهو تقليد متوارث يمنح النبيل البريطاني حق ممارسة الجنس مع العروس في ليلتها الأولى. المرأة في ثقافتنا هي رمز لشرف الرجل دونه الموت والمرأة بذلك لا تستجدي العطاء من الآخر بل تعيش معززة مكرمة ما دام لها “عزوة” من الرجال.
والآن، أستطيع القول إن فقدان البوصلة العقلية هو تمهيد لاختلاط المفاهيم بعضها ببعض وضياع الهوية الإنسانية ومن ثم ضياع المستقبل. نحن نستورد المفاهيم الغربية أو بالأحرى يسوقها الغرب في بلادنا بشتى أساليب الإغواء أو الإكراه دون تمحيص من قبلنا بل نقوم بترجمة نصوص بعضها حرفيا دون الغوص في أعماقها حتى وإن كانت تعبيرا علميا صرفا. سأقدم هنا مثالين علميين لكنهما صارخان ويظهران مستوى الفوضى الذهنية التي تمخر عبابها دون مراجعة متأنية. في اللغة الإنجليزية هناك تعبير “Plant Breeding” أي علم “استنسال” أصناف نباتية جديدة ومثالها علم “Animal Breeding” أي علم “استنسال” أصناف حيوانية جديدة. من الأمثلة التطبيقية على ما سبق استحداث كافة أصناف المحاصيل الجديدة التي تغزو الأسواق من تمور وحبوب وفاكهة أو أصناف الحيوانات المحسنة من دواجن لاحمة وأخرى بياضة أو خراف منتجة للصوف أو اللحوم بل وحتى كلاب وقطط حسب المواصفات المرغوبة. هذه العلوم “الإستنسالية” تمت ترجمتها الى “تربية نبات” أو “تربية حيوان”. هل تفي كلمة تربية بالمعنى المقصود من الكلمة الإنجليزية “Breeding”؟ بالطبع لا! المفارقة هنا أن استخدام كلمة “تربية” المغلوط انسحب على تخصص أكاديمي آخر ليس له علاقة بالتربية وهو تخصص “التعليم” أو “Education”. في معظم الجامعات الغربية توجد كليات “Education” وهي كليات معنية بتطوير التعليم المدرسي بالدرجة الأولى وتضم أقساما أكاديمية مثل “أساليب التدريس” أو “المناهج” أو “تعليم موضوع محدد”. هذه التصنيفات المنهجية غير معنية ألبته بأمور “التربية”++ التي هي نشاط اجتماعي موجه لتعليم الصغار بالدرجة الأولى أساليب التعامل المهذب مع الآخر أو أساليب التحدث أو الجلوس الى مائدة الطعام أو الانصراف من المجالس أو نحو ذلك. كل تلك الأساليب التربوية غير ذات علاقة بالتخصصات الأكاديمية. في الماضي كنا نطلق كلمة “المؤدب” على من يقوم بمثل هذه المهمة التي نطلق عليها في حاضرنا كلمة “تربية”. من أمثلة ذلك المؤدب “خلف الأحمر” الذي عينه الخليفة هارون الرشيد مؤدبا لولده محمد الأمين. جاء في رسالة الرشيد لمؤدب ابنه ذاك. “يا أحمرُ، إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه، فصير يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة؛ فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين: أَقْرِئْهُ القرآن، وعرِّفه الأخبار، وروِّه الأشعار، وعلمه السنن، وبصِّرْه بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه ولا تَمُرَّن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميتَ ذهنه. ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفَه. وقوِّمه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإنْ أباهما فعليك بالشدة والغلظة”. أجل “عليك بالشدة والغلظة” كما أراد أمير المؤمنين من مؤدب ابنه! هل ينسجم هذا والمفاهيم الغربية التي تحظر ذلك؟ للإجابة البسيطة أرجو تذكير القارئ الكريم بخصال الأمين عندما أصبح أميرا للمؤمنين!
ذات يوم قال أحد المسؤولين في وزارة التعليم: نحن لا نعلم فقط بل نربي الأجيال الصاعدة لذلك أقترح إضافة كلمة التربية الى اسم الوزارة فتحول الاسم من “وزارة التعليم” الى “وزارة التربية والتعليم”. الى هنا والتغيير المقترح في تسمية الوزارة أمر يمكن التغاضي عنه لكن هذا الاسم المستجد أصبح تخصصا أكاديميا يمنح للعاملين في مجال التعليم المدرسي قاطبة. لم يدرس المعلمون تخصصا اسمه “تربية” لكنهم بقدرة قادر أصبحوا مختصين في “العلوم التربوية”؟
ما سبق هي أمثلة على فوضى المفردات التي نرددها دون وضوح مدلولاتها. مثل تلك الفوضى لا بد وأن تستولد فوضى ذهنية تفقدنا بوصلة التوجه نحو الهدف السليم. وبفقدان الاتجاه، تصبح كافة نشاطاتنا ضربا من العبث الذي يشتت الطاقات البناءة فلا ننجز مهمة رغم عنائنا. في اللغة الإنجليزية، هنالك تعبيران يختلفان في مدلوليهما الأول هو Speed ويعني معدل الزمن الذي يتحرك فيه جسم عبر مسار معين وهناك كلمة Velocity وتعني معدل الزمن والاتجاه الذي يتحرك فيهما جسم. بمعنى آخر، فإن Speed مفردة تعني المقياس Scale مثل سرعة دوران المروحة أو سرعة تدفق الهواء من المكيف في حين تعني مفردة Velocity “المتجه” وهو فعل يمكن استثماره في عمل نافع كتوليد الطاقة الكهربائية أو رفع أو نقل ثقل.
وبعد، قد تبدو تلكم المفردات غير مترابطة لكنها في الحقيقة مترابطة لمن يدرك كنهها.