وطنا اليوم – تعدُّ هذه الصيغة المتداولة (كيد النساء) المذكورة في القرآن ومن ثم في التراث، حتى ارتقى بها المرتقى، بأن تكون حاضرة في كل الأزمان، تعبيرا ظالما فيه الكثير من الغموض والضبابية، وسوء الفهم، على الرغم من خطابها المباشر.
وإذا عدنا إلى تاريخ هذا النوع من العبارات، خصوصا في التراث وما حمل من قصص عن دواهي ومكر النساء، سنجد أنها مولودة في بيئة اجتماعية وثقافية قاسية، يحكمها الرجل بقوة من جميع جهاتها، ولعل ارتباط المجتمعات بالذكورية في نشأتها، راجع إلى اعتماد الحياة القديمة على القوة الجسدية، الأمر الذي يجعل القوة الجسدية كأبسط تعابير السلطة، هو السائد. يقابله الفارق الواضح لدى المرأة، على الرغم من كونها فاعلة طوال فترات نشوء المجتمعات، بما يلائم بنيتها الجسدية وما لا يلائمها. لذا كان لجوء النساء إلى الحيلة والتخطيط، بديلا عن استخدام القوة الجسدية، لأنه خيار غير ناجح في المواجهة، هو السبب الرئيسي الأول، فتلجأ النساء إلى وضع الحلول والانتصار في الصراعات والمعارك المختلفة، عبر اللجوء إلى الحيل الصغيرة والكبيرة، وتجنب خيار المواجهة والصدامية، الذي سيكون في كل أشكاله بعيدا عن مصلحتها. ولو أخذنا مثل هذا القياس على الإنسان بشكل عام، بدون تصنيفه، سنجد أن الخيار الجسدي عندما يكون غير متاح، يرتفع البديل بسرعة، حيث اللجوء إلى التفكير والتخطيط والحيلة بشكل كلي، كذلك تفعل المخلوقات الحية الأضعف مع الأقوى، ذلك أنها طورت وسائل دفاعية مختلفة عبر القرون لحماية نفسها من الأذى والافتراس، حتى إن كانت هذه الحماية ردا تجاه فعل غرائزي، فهو يؤكد في آخر الأمر أن محاولة النجاة وحماية النفس، تنبع من الغرائز، مستخدمة إمكانات الجسد العقلية والعضلية في توفير احتياجها.
المرأة والمجتمع
واثبتت الحياة المعاصرة أن المراة التي تعيش حياة مماثلة، أو أقرب من حياة الرجل، المليئة بالتجارب والخبرات، من خلال الاحتكاك والتعامل عبر مواقف لا تحصى، جعلها ندا حقيقيا، قادرا على إثبات الصورة المعاكسة لما هو مشاع. ومن ذلك يمكننا القياس على المجتمعات ومدى تأثير النساء، من خلال الطبيعة الثقافية والاجتماعية، المتمثلة بمدى قسوة العادات والتقاليد ومدى انفراجها، حيث أن المرأة طوال العصور الماضية كانت أقرب إلى البيت والعائلة والزراعة، فيما يخوض الرجل في مجالات الحياة كافة، يرى ويسمع ويتأمل، يفوز ويخسر، يضحك ويبكي، لكن عبر تجارب مختلفة وشاسعة في اكثر من موضع جغرافي وثقافي. ويمكن عدَّ السفر والحروب واحدة من روافد الرجل في تدعيم خبراته في الحياة وفتح آفاقه عبر الاكتشاف والاطلاع، حتى إن لم يكن بشكل مباشر وغير مدرَك، لكنّه بسهولة يتحول من مشاهدات آنية مهملة تمر على الإنسان، إلى خبرات مقطّرة. بينما بقيت النساء مرتبطات جغرافيا واجتماعيا ببيئة محدودة ومكررة، استنفدت تاريخها من العطاء والتجدد، وأصبحت تقليدا واعتيادا يركن إليه المجتمع. ولا بد أن نشير عبر ذلك كله، إلى أن لا فرق بين رجل وامرأة إلا بالخبرة والتجربة المعيشة، ويمكن للرجل ملاحظة ذلك الفارق عبر احتكاكه بنسوة فاعلات في المجتمع، أكثر من وجودهن المحدود داخل المنزل، ومثالا على انعدام الفارق هذا، عندما كنا صبيانا نركض ونلهو في كل مكان، تغرينا كرة القدم والمشاجرات والمدرسة وألعاب أخرى تختلف في التسمية من مكان إلى آخر، كان هناك صبيان بمثل عمرنا، يتعرضون لضغط الأهل الحاد، بحجة التربية والحرص، لا يخرجون كثيرا ولا يلهون مع أصدقائهم وقتما يحبون، يعيشون برتابة الكبار لا بشقاوة الصغار.
وفي الوقت الذي كنا فيه «مشكلجية» في صغرنا بشكل ظريف، كانوا هم الأكثر أدبا، وهو شيء من الانكماش والتقيد أكثر، والأدق أنه لم يكن تأدبا، لكن هكذا وصفه الأهالي، كانت شخصياتهم تشبه شخصيات البنات المحاصرات في البيوت، محدودات الحركة والنشاط والحياة، حتى أن سلوكهم كان يمتاز بنعومة وسلاسة لا تألفها عند الرجل، بل ما نلاحظه عند البنت، من ذلك ثبت أن القيود تفعل كل ذلك، بغض النظر عن ظرافة وطراوة النساء، المترسخة في الجوهر.
الذي فاجأنا بعد سنوات، بعدما تحرر أولئك الصبيان قليلا من قيود المنزل والأهل، إجبارا لا تفكيرا أو مصادفة، خصوصا في مرحلة الجامعة، وجدناهم أكثر الشبان اندفاعا إلى العلاقات مع النساء، وأكثرهم ميلا إلى التأنق المفرط، وأول من انفجر على حياته المضغوطة بالنهي المتفاقم، فكانوا سبّاقين في اعتناق عقيدة الدخان والخمرة والنساء قبلنا، نحن الذين كنا «حركين» و«مشكلجية» بالمعنى الظريف. بلا ادنى شك تأخذ المكائد أشكالا مختلفة، حسب ما يستدعي الموقف، لدرجة أنها يمكن أن تلجأ إلى سلوكيات مؤذية بشكل يجعلها غير متوقعة وصادمة، كما أن التركيبة الأنثوية المغرية للرجل، تلعب دورا حاسما في تعضيد فكرة «الكيد» لدى المرأة. والحقيقة أن مرونة الإنسان وقابليته على سلوك وقبول بعض الأفعال، هو ما يدعى بـ«الكيد» ولا يخص المرأة دون الرجل. ولو استعدنا أغلب المكائد في الوقت الحاضر، ستجد أنها في أغلبها، نوع من الانحطاط، يحتاج إلى تجاوز أخلاقي وقيمي لا أكثر، وهي مكائد تختلف عما ورد في التراث. والمضحك أننا كنا نقرأ عن هذا الكيد ونطلع على المشاهد والمواقف، وكيف تنتصر المرأة فيها وتنجو بخطاياها الأكيدة، فيصيبنا الفزع والخوف والتفكير العميق بالمستقبل، الذي يدفعنا إلى ذلك ببساطة هو، أننا اعتدنا على صورتها البريئة الساكنة والمطيعة، التي إذا تأذت لن ترد الأذى، وإذا تعرضت للخيانة فإنها لن تخون، ستبقى وفية لبيتها وزوجها وأولادها ولعائلتها، كعادة أغلب النساء في مجتمعاتنا، وكما هو متوقع منها مسبقا. ودليل آخر على أن الكيد ليس مرتبطا بالنساء، وكأنه ينتمي إليهنّ عبر روابط بيولوجية، كما يصفه ويقتنع به كثيرون، هو وجود نساء بأعمار مختلفة، ومن حاضرنا هذا، لا يُجِدن التخطيط والخداع واللعب على العقول، كما يفترض وفق الشائع أن تفعل، وهذا يرجع بطبيعة الحال إلى الدور المؤثر في التنشئة داخل البيت أولا، ثم الظروف الحياتية ثانيا.
ومن الضروري الإشارة إلى أن أغلب المكائد النسوية هي خبرات تتوارثها النسوة، جيلا بعد جيل كأسلوب حياة مجرّب في احتواء الرجل/ الزوج، أو جذبه للزواج، وفي تدبير المنزل ورعاية الأولاد، وفرض تأثيرها الأنثوي حتى لا تسرقه امرأةٌ اخرى، ومثل هذه السلوكيات تنتشر أكثر في المجتمعات التقليدية والانتقالية، وتنحسر في المجتمعات الحديثة، حيث أصبح صوت المرأة وتأثيرها مساويا للرجل، وتبوأت مناصب في مختلف المجالات، وهذا دليل ثالث، بأن الظروف الاجتماعية والثقافية الملائمة، استطاعت تخليق نساء مختصات في العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والآداب بكل جدارة. ومعها تغيرت الحاجة إلى الرجل كعنصر أساسي تستند إليه، وصار من الممكن أن تكون المرأة هي صاحبة «القوامة» على البيت، والزوج في حالة تعطل عمله أو تلكأ أو طُرد، فمبدأ القوامة في الآية القرآنية «الرجال قوامون على النساء» التي تضع الرجل في الواجهة دائما، لأن الوقت الذي نزلت فيه الآية كانت وقتا عصيبا، يخلو من تسهيلات حياة اليوم، ويحتاج إلى قوة الرجل الجسدية في أداء الأعمال، واستحصال الرزق، ومنها تأسست تلك الذكورية المفرطة، مسورة بالعادات القبلية. وهذه دعوة لقراءة النص المقدس قراءة حديثة، وإشارة إلى أن الحيلة والمكيدة موجودتان في كل عصر وزمان، لكنهما أكثر انتشارا في المجتمعات التي تعيش حالة ازدواجية مفرطة، تجبر الأفراد معها إلى تسيير الحياة بالقبول والموافقة على هذه السلوكيات، وهذا ما يشمل المرأة والرجل على حد سواء.
وأغلب المفسرين للآية القرآنية من «سورة يوسف»: «إنه من كيدكنَّ أن كيدكن عظيم» فسّروا الآية اعتماد على التفسير الموضوعي، بإخراجها من السياق الذي وردت فيه، حيث ذكرت الآية في قصة يوسف، وفي إطار حدث شهير ومعروف ولا يخفى على أحد، ثم عمّموا التفسير على كل النساء خارج الحادثة. وكانت هذه التفاسير هي السبب الأهم في وصم المرأة بالكيد والخديعة والانطلاقة الأولى، وأصبحت ملازمة لها عبر الأجيال، والظريف أن المرأة صدّقت ما صدقت مما ورد من ذلك، وما تناقله وصنعه عالم الرجل آنذاك، وبقي يحمل طاقة التوارث، فأخذت تتمثل ذلك الكيد أحيانا، أو تنسب كل حركة أو تخطيط ماكر مثلا إلى خصيصة الكيد الشهيرة لدى النساء. ثم جعلوا المرأة أستاذة الشيطان، كما يرد في المتداول الشعبي، بالاعتماد على الآية القرآنية من «سورة النساء» التي تقول «إن كيد الشيطان كان ضعيفا» وجعلوا المقارنة بين الكيدين عبر الفارق بين التوصيفين العظمة والضعف الواردين في الآيتين.
غياب التفسير الموضوعي
ومثل هذه الإساءات التي تنم عن قصور في فهم وتفسير الآيات والروايات، وغيرها من النصوص المعتمدة، والتي لم تتعرض إلى الفحص والتدقيق طوال هذه الأزمنة، جعلت علاقة الدين بالمجتمع علاقة سلبية، ينعكس أثرها في الحياة الاجتماعية، ممثلة بسلوك الأفراد اليومي داخل وخارج البيت، حتى تحولت إلى ثقافة راسخة وممتدة ومتوارثة، تحمل طاقة الاستمرارية بفعل الانتشار الهائل والواسع مدعّما بالثقافة الشعبية، والتدين الشعبي الرائج في المجتمعات التقليدية ذات التفكير الواحد والتفسير المتعدد. الأسئلة الواجب طرحها في مثل هذا الموضع، كيف يمكن تدارك الأخطاء النافذة عبر التاريخ وإلى يومنا هذا، وكيف يمكن تصحيحها؟ هل يكفي الحديث عنها في مقالات ومجلات ومنشورات فيسبوكية؟ أو تسليط الضوء عليها من خلال قنوات فضائية؟ وهنا لا أقصد هذا الموضوع بذاته فقط في طرح الأسئلة، إنما حتى الموضوعات التي تشابهه، خصوصا ونحن نرى مدى بشاعة ما وصل إليه الأمر من صناعة قناعات وتصورات مسبقة عن الآخرين، قبل أن يبادروا بفعل شيء، حيث إنهم محاصرون بسوء الظن حتى قبل ولادتهم؟ ومن سيتصدى لكل هذا التراث المملوء بالتفاسير القاصرة؟ علما أن اغلب المفكرين الإسلاميين الجدد يقفون بالضد من المنهجية القديمة في التفسير.
مهند الخيكاني
كاتب عراقي