عبدالحميد الهمشري
مرت ذكرى صدور وعد الشؤم الذي منحه الصهيوني بلفور – وزير الخارجية البريطاني – منذ قرن من الزمان مضافاً إليه سنوات ثلاث ، وسبقتها عشرات السنون العجاف على الأمة العربية والإسلامية ، قادت لتمكن الحلفاء الغربيين من فرض أجنداتهم وتنفيذ استراتيجياتهم ومخططاتهم وفق ما يرسمون على عالمنا العربي والإسلامي غايب الفيلة عن كل ما يجري ، فأضحى المواطن الفلسطيني والعربي والمسلم بفعل حلقات التآمر الأجنبي الحبشي الذييح الذي يدفع ثمن ما يجري من خلال تكبيله بمعاهدات يقرها الطامعون لفرض إرادتهم عليه أدت لتجزئته والهيمنة على مقدراته وطرق مواصلاته وأمنه واستقراره ، ولم يجر التعلم من دروس الغدر والخديعة التي مورست ضدنا من هؤلاء ، منذ جرى التساوق معها أملا في الوصول إلى ما وصلت إليه من تطور وتقدم في مختلف مناحي الحياة ، دون التنبه لما يصنعونه في سبيل عرقلة طموحاتنا في الوحدة والتطور على أسس تعتمد العلم والتعاضد بمختلف مناحي الحياة ، يل ومع الأسف الشديد تم التساوق مع هؤلاء الطامعين درءاً لشرورهم ولردات فعلهم إن جرت مقاومة مخططاتهم ورفض تدخلاتهم الموصلة لخدمة اسراتيجياتهم علينا ، ظناً ممن يتساوقون معهم أن هذا يقود لبر الأمان ، فكان الوبال الذي نعيش مر وسوء لحظاته لغاية الآن .
فالكثيرون ممن يطلعون بتسيير شؤون العالم العربي آثروا التعاون مع المستعمر الذي يضع الاستراتيجيات والمخططات التي توصله لمراده القاضي بشرذمة الأمة وتشتيت جهود ومواقف وطنييها الرافضين لهيمنته ، وفق ما سبق وأن تم التوافق عليه بين شركاء تقاسم النفوذ في شرقنا الأوسط العربي ، حيث أنني هنا سأحاول تسليط الضوء قدر الإمكان على مجريات أحداث سبقت صدور الوعد وما بعد صدوره وحتى الهيمنة الصهيو أمريكية على مفاصله من محيطه لخليجه وبما يصب في صالح الكيان العبري.
فمنذ البداية وقبل صدور الوعد المشؤوم كان للشعب العربي الفلسطيني رأيه الرافض للوجود اليهودي صنيعة الحركة الصهيونية وداعميها على الأرض الفلسطينية ، والرفض ابتدأ منذ اليوم الأول لبدء الهجرة اليهودية لفلسطين في وقت كان الوهن يدب في عضد الدولة العثمانية ، حيث بانت حقيقة مراميهم أي اليهود منذ اليوم الأول الذي منحت فيه الدولة العثمانية لهم حق العيش في كنفها ، وحين صدور الوعد كان الشعب الفلسطيني أكثر تشدداً في رفضه له عملياً ، ايتدأها بإطلاق الجمعية الفدائية عام 1918، وانتفاضة القدس عام 1920، وثورة يافا عام1921 ، وثورة البراق الإسلامي عام 1929، وتظاهرات عام 1933، وحركة الشيخ عز الدين القسام عام 1935، وثورة فلسطين الكبرى عام 1936– 1939 والتي شهدت أكبر عصيان مدني شهده التاريخ ولم يتوقف إلا بفعل ضغوطات زعماء عرب وسطتهم بريطانيا لذلك واعدة بأنها ستأخذ بمطالب الفلسطينيين بعين الاعتبار ، في الوقت الذي كانت فيه تعقد لقاءات في فرساي مع قيادات عربية مع بريطانيا وفرنسا خلال وبعد الحرب العالمية الأولى على أمل منح العرب استقلالهم وإقامة دولتهم العربية الكبرى في آسيا العربية وفي ذات الوقت الذي كانت دول التحالف الغربي توهم العرب بتحقيق مطالبهم كانت تلتقي بزعماء أ الحركة الصهيونية كوايزمن وتعمل معهم بجد لتحقيق هجرتهم الموعودة وفق ما يدعون إلى فلسطين ، أمام هذه الهجمة الشرسة التي تشنها دول العالم الغربي على أقطارنا العربية وعالمنا الإسلامي للمس بكرامتنا والتعرض لثوابتنا ورموزنا وأمن واستقرار مجتمعاتنا ، فإننا أمام واقع يزداد سوءاً يوماً عن يوم يتهدد وجودنا ، لذا فإنه لا مفر لنا أمام هذا الواقع المرير سوى المواجهة وقبول التحدي، وإثبات الذات إن أردنا أن تقوم لنا حياة وفرض احترام وجودنا على المجتمع الدولي لا أن نكون إمعات نردد ما يزعمون من تعشش الإرهاب في صفوفنا مع أنهم هم من يصنعون ذلك التعشيش من خلال صناعة متطرفين مرتبطين بهم إلى جانب نخب تبذل جهودها المضنية وعلى حساب كرامتها وفي غير مصالح مجتمعاتها خدمة لأجندات تستهدف تلك المجتمعات والبلدان لنهب ثرواتها وزرع الخوف بدل الأمن والأمان فيها ، الجماعات المتطرفة والنخب المرتبطة ومع الأسف كلها تصب في بحيرة خدمة أهداف الدول المتمكنة منا والحركة الصهيونية وتؤدي الدور المناط بها بكل مهنية ما نال رضا داعميها التي تعمل على تنميتها سياسيا واقتصاديا وثقافيا ، فالقضية ليست قضية غزو فكري بل شراء ضمائر وغسيل أدمغة لشيطنة مجتمعاتنا التي ما زالت تقف في حالة من الهذيان أمام واقعها المؤلم هذا ، جراء حالة التضليل الإعلامي وقلب الحقائق ، حيث لا يسمح للإعلام المستقل بأخذ دوره لكشف حقيقة ما يجري من خلال تشريع قوانين تحجم دورها الريادي في خدمة أمتها ومجتمعها.
أنا لا أحمل مسؤولية ما يجري للدول المهيمنة بل لذيولها من نخب ومتطرفين ممن يعملون على هدم مجتمعاتهم لأن تلك القوى لو لم تتمكن من تحقيق اختراقات لصالحها لما تمكنت من فرض إرادتها علينا ولنأخذ الصين مثلاً على ذلك ، حيث نعلم جميعنا عن حرب ضد الأفيون التي شنتها الحركة الوطنية الصينية ضد مروجيه في المجتمع الصيني وانتصرت وتمكنت من تحرير بلدها من السطوة الغربية بدحر السلطة الفاسدة فيها فتحولت لقوة عظمى في كل مجالات الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية وعادت لتأخذ دورها الأممي الذي كانت محرومة منه لعقود وأضحت قوة يشار لها بالبنان في الصناعة والاقتصاد والقوة العسكرية وما لهذا أن يحصل لولا أنها نفضت من مجتمعها كل انحراف، وفساد خلقي، وعقدي، واجتماعي و لفظ عقدة النقص التي نحياها لتكون أمة تعتد بحضارتها وواقعها ودورها الإنساني في خدمة السلم والحضارة الإنسانية ، دولة واحدة في دول عالمنا الإسلامي تمكنت بفضل زعيم فيها يشار له بالبنان تخلص بداية من الفساد فبنى اقتصاد بلاده ما جعل منها دولة اقتصادية يشار بها بالبنان وهي تسير على خطا التطور والتقدم وأقصد بها ماليزيا التي ترفض أن يملى عليها شروط كما يفرض علينا من تطبيع مع عدو العروبة والإسلام تحت مبررات تقودنا لمزيد من الضياع ، في سبعينيات القرن الماضي التقيت بقائد عسكري باكستاني جمعني به زميل أبلغني أنه من أبناء عمومته كنت وإياه نعمل معاً في ذات الموقع ، حدثته عن فلسطين وما يجري بها فقال لي حرفياً: قلوبنا معكم ونحن نعلم أنكم على الحق ، لكننا فعلياً لسنا معكم ولا نستطيع أن نكون بفعل الأوامر السياسية غير ذلك .
وعودة إلى بدء فإن فرنسا كانت أول المعترفين بالوعد بعد صدوره على لسان وزير خارجيتها آنذاك استيفان ، في وقت كان فيه العالم العربي والإسلاميّ يتخبّط في خياراته بين مؤيد للاستعمار وما بين داع للتنوير والأصالة ، أو الاستقلال ، حيث لم يكن هناك توجه عام لإسقاطه سوى من الشعب الفلسطيني ووطنيي العالم العربي والإسلامي ، العثمانيون من جانبهم لم يفعلوا شيئاً لمجابهة الوعد ورفض تنفيذه بل جاء كمال أتاتورك واعتمد مضمونه ..
سبق صدور وعد بلفور اتفاقية سايكس بيكو في عام 1916 وبعده في عام 1919معاهدة فرساي التي أنشئت بموجبها عصبة الأمم ، ومن ثم سان ريمو عام 1920 الذي وضعت بموجبها سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي، وفلسطين والأردن تحت الانتداب البريطاني بالإضافة إلى العراق. حيث تسبب وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، اندلاع صدامات واسعة بين اليهود والفلسطينيين في مدينة القدس.
العالم الإسلاميّ والعربي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كان واهناً وغافلاً والمنطقة العربية تحولت لمنطقة فراغ سياسي بعد هزيمة الدولة العثمانية وتنازلها عنها وأصبحت تتحكم بها أطماع المحتلين الجدد وكانوا يجهلون ما يحاك لعالمنا العربي من مؤامرات خاصة من قبل الحركة الصهيونية التي كانت على تواصل مع حكومة الاتحاد والترقي بعد فشلهم في شراء ذمم الخلفاء العثمانيين حيث سهل لهم الاتحاد والترقي الهجرة إلى فلسطين ومنحتهم الأراصي لإقامة المستوطنات عليها ، وكانوا في ذات الوقت يبنون علاقاتهم مع الزعماء السياسيين في الغرب خاصةً مع من لهم ميولٌ توراتيّةٌ يهودية كبريطانيا والولايات المتحدة، فالمسألة كان لها جوانب وأبعاد سياسيّة ودينيّة كونهم يتقرّبون إلى اليهود، لأنّهم يعتقدون ما تذكره التوراة بأنّ عيسى عليه السلام سيعود إلى فلسطين، وسيدخل الناس جميعاً في دينه، بما في ذلك اليهود، وعليه فالمسألة تتعلق بمؤامرةً كبرى سهّلت للصهاينة أن يعملوا من أجل الهجرة إلى فلسطين، والقيام بتشكيل عصابات مسلّحة للاستيلاء على الأراضي .. وبصيغة سايكس بيكو جديدة لحمايدة دولتهم التي أصبحت ذات قدرات تمكنها من فرض هيمنتها على المنطقة وهي الآن من خلال الولايات المتحدة قادرة على خلق وقائع جديدة تعتمد تقسيم المنطقة لدويلات طائفية تهيمن عليها الدولة العبرية بدليل وقوفها خلف احتلال العراق وتدميره ، والعمل على تقسيمه لدول طائفية خاصة الأكراد الذين باتت الدولة العبرية تدرّب جيشها المتمثل بالبشمركة لتكون دولة مستقلة بدفع من الأمريكان واليهود وبتسهيل من الحكومات العراقية التي تشكلت منذ الـ 2003 واعتمدت المحاصصة الطائفية بما يخدم الوعد وإيران .
فحاييم وايزمن أعلن منذ البداية أن هدف الصهيونية كان ولا يزال الدولة اليهودية في فلسطين أولاً، وبلوغ هذا الهدف يكون بوضع فلسطين تحت حماية دولةٍ صديقة كبريطانيا لتسهّل لهم الهجرة والسكنة، فبريطانيا كانت أساس البلاء في استئصال فلسطين من الخارطة العربية وإعطائها للكيان الصهيوني لكنها مع ذلك كانت ولا زالت هي المرجع لمعظم العرب ..
مقاومة الشعب الفلسطينيّ وأخيار أمّتنا العربية والإسلاميّة قد استمرّت مئة عام، وهذه المقاومة حالت دون تعميم وعد بلفور لكي يتجاوز الأراضي الفلسطينية إلى المحيط العربي ، فوعد بلفور ما كان له أن يتجسّد على أرض الواقع لولا وقوع فلسطين تحت الاحتلال البريطاني ومن ثم تبنّي هذا الوعد من قبل عصبة الأمم المتحدة، عبر صك الانتداب البريطانيّ ومن ثمّ تضمينه في الدستور الفلسطينيّ الذي وضعت نصوصه بريطانيا ، التي تمكنت من إنجاز مشروعها وفق ما جاء بالوعد مستفيدة من حال الانقسام العربي والإسلاميّ الذي كانت تحكمه مواقف متناقضة فالموقف الرسميّ العربيّ كان مائعاً ما ترك انطباعاً لدى بريطانيا والصهيونية أن هذا التمييع يخدمها في تنفيذ مخططها وهذا كما كان ، فموقف مصر الخديوية أنها استقبلت بلفور بعد سنوات بمناسبة افتتاح الجامعة العبرية في القدس حيث ذهب إلى فلسطين عبر الأراضي المصريّة، وتم استقباله من طرف الحكومة المصرية استقبالاً كبيراً، واتخذت حكومة الخديوي قراراً بالمشاركة في حفل افتتاح تلك الجامعة.. وعد بلفور أنتج دويلة الكيان الصهيونيّ، الذي ابتدأ بفلسطين أولا والمرحلية تحكمه لحين تدجين الرسمية العربية للقبول بالدولة الصهيونية الكبرى لكن وبفعل المقاومة وصمود الشعب الفلسطيني تم حصر هذا الكيان العبري داخل الجغرافية الفلسطينية المقاومة على مدى المئة عام، هجمة ترامب ونتنياهو الآن بما يمثلونه لليمين الصهيوني الأمريكي واليهودي المتطرف في فلسطين فإنهم يخطّطون لإنقاذ هذا المشروع، ودفعه ليأخذ خطّه الاستراتيجي المرسوم فما يتعرّض له وطننا العربيّ الآن من محاولات تقسيم وتفتيت من خلال إعادة إنتاج اتفاقية سايكس بيكو جديدة تسهم بعملية تفتيته ما يمكّن هذا الكيان من الهيمنة والامتداد في المنطقة العربية..يالمقاومة وحدها وبالصمود الواعي يمكننا كسر المشروع الصهيوني والانتقال لمرحلة الهجوم الاستراتيجيّ على الكيان الصهيونيّ وعلى المشاريع الأميركيّة في المنطقة وهذا يتطلب وعياً بعدوّنا الإمبريالي، الصهيوني وبالصديق الذي يقف إلى جانبنا في المحن والشدائد و بالأهداف التي نريد أن نصل إليها ونحقّقها.ولا بد من استنهاض الوعي وتحفيز الهمم من أجل استمرار المعركة، ونتعامل معها كحقائق وكقضايا معاصرة، من خلال التعامل الجيّد والواعي .
abuzaher_2006@yahoo.com