المعلِّمُ… أيقونةُ الوطنِ ونِبراسُه..!

دقيقة واحدة ago
المعلِّمُ… أيقونةُ الوطنِ ونِبراسُه..!

د. مفضي المومني
في يومِ المعلِّمِ… وكلِّ الأيّامِ له… أكتبُ لذاتِ المناسبةِ بعضًا من حُبٍّ، وفيضًا من الوفاءِ، لنستذكرَ كلَّ مَن علَّمَنا، فهمُ النِّبراسُ الذي يُضيءُ حياتَنا في عَتَمةِ الزَّمن.

> قُمْ للمعلِّمِ وفِّهِ التبجيلا كادَ المعلِّمُ أن يكونَ رسولًا
أَعَلِمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي يَبني ويُنشِئُ أنفسًا وعقولًا

في يومِ المعلِّمِ العالميّ، يحتفلُ العالمُ بالمعلِّمِ على طريقتِه، ونحتفلُ نحنُ بهِ على طريقتِنا!
ولنعرِفَ مَن هو المعلِّمُ وما قيمتُه، دعونا نعودُ لأيامِنا الأولى في المدرسة، أولِ مظهرٍ رسميٍّ واجهناهُ في أولِ خروجٍ من حضنِ الأسرة، كُنّا نخافُه… ونحبُّه!
نعم، عندما كان أيُّ معلِّمٍ يمرُّ ونحن نلعبُ في الحارات، وخارجَ وقتِ الدوام، يتوقّفُ اللعبُ، وكانت مشاعرُ مختلطةٌ ننفِّذُها دون أن يُعلِّمَنا إيّاها أحد، مشاعرُ احترامٍ وخوفٍ ورهبةٍ وهيبةٍ؛ يتوقّفُ اللعبُ والكلامُ وكأنّنا بموكبٍ مهيبٍ يمرُّ أمامَنا.

المعلِّمُ أوّلُ من خطَّ في عقولِنا وقلوبِنا كيفَ نحبُّ الوطنَ والنّاسَ، وكيفَ نحترمُ الآخرَ، وكيفَ نرسمُ طريقَ المستقبل.
وعن الخوفِ، وهو خوفٌ مُحبَّبٌ مقرونٌ بالوقارِ والهيبة، حدَّثني قريبٌ لي كان يعملُ مهندسًا ومديرًا في كبرى شركاتِ الاتِّصال، أنّه في طفولتِه أعطاهُ والدُه (تعريفةً) أي خمسةَ فلوسٍ، وذهبَ إلى الدكّانِ لشراءِ (الملبّس) أي الحلوى، فوجدَ معلِّمَه جالسًا عندَ الدكَّنجي، فارتبكَ، وبالحالِ خاطبَ الدكَّنجيَّ قائلًا: “أعطني قلمًا!”
موقفٌ بسيطٌ، ولكن نقرأُ فيه الكثيرَ ممّا لا يقرأون!

المعلِّمُ ليس موظَّفًا عاديًّا يجلسُ خلفَ مكتبِه وأوراقِه، وليس معلِّمَ فلافلَ ولا معلِّمَ شاورما، مع كلِّ الاحترامِ لكلِّ المهن.
المعلِّمُ ليس موظَّفًا كسولًا تُلاحِقُه العقوباتُ وينتظرُ نهايةَ الدوام، وليس باحثًا عن منصبٍ أو ولايةٍ.
مهنته الوحيدةُ التي لا تتغيّرُ: يُولَدُ معلِّمًا ويقضي معلِّمًا.

إذًا، مَن هو المعلِّم؟
المعلِّمُ أيقونةٌ تعتلي رؤوسَنا جميعًا، شخصٌ انشغلَ بنا ونسيَ نفسَه، إنسانٌ قدَّم معرفتَه وكلَّ ما يمتلكُ لينيرَ لنا الطريق.
المعلِّمُ زوَّدَنا بكلِّ أدواتِ النجاح، ومَن فشلَ منّا كان تقصيرًا منه.
المعلِّمُ قيمةٌ تُمثِّلني وتُمثِّلك وتُمثِّلُ كلَّ الوطن.

أتحدّى أيَّ منّا، مهما علت رتبتهُ ومنصبه، أن يدخلَ عليه معلِّمُه ويبقى جالسًا على كرسيِّه!
ما زلتُ، رغمَ العمرِ، أذكُرُ كلَّ من علَّمني في كلِّ المراحل، وأحسبُكم كذلك.
أتذكّرُ الأستاذَ نايف المومني رحمهُ الله، معلِّمي في الصفِّ الأوّل في مدرسةِ صَخرَة – عجلون، وأناقتَه وشخصيّتَه و(الزِّنّار الجِلد) الذي كان يُدغدغُنا به، ولا أقولُ يضربُنا!
فقط حينَ كبرنا أدركنا مَن هو الأستاذُ نايف… وطلال، ومحمّد، ومصطفى، وموسى… والقائمةُ تطول.

نعم، فضلُ المعلِّمِ علينا يتغلغلُ في عروقِنا ويجري في دمِنا.
المعلِّمُ الحقّ هو ذاتُ المعلِّمِ في أيّامِ الستينيّاتِ والسبعينيّاتِ وأيّامِنا، ومَن شذَّ لا يُقاسُ عليه.
لا أعرفُ كيف تُطاوعُه نفسُه مَن أضمرَ كسرًا أو سوءًا بالمعلِّم.

المعلِّمُ هو نحن… تطوّرنا وكبرنا وأخذنا المناصبَ والرواتبَ والسيّارات… وبقي هو ذاتَ الشخصِ وذاتَ الزُّهد… يعيشُ على كرامتِه ويتغذّى عليها، يعملُ أكثرَ من عملٍ ليَرعى عائلتَه، يركبُ سيّارةً قابلةً للعُطلِ عندَ كلِّ مطبٍّ، لا تُغريه مطامعُ الحياةِ التي تُغرينا، يلبسُ ما تيسّر، يثورُ لكرامتِه.
ونذكرُ ذلك عندما انتقدَ أحدُهم – وأظنّه وزيرًا – لباسَهم!

المعلِّمُ هو السُّلمُ الذي صعدنا عليه جميعًا، ومَن يجرؤ أن يقولَ غيرَ ذلك؟
صانعُ الإنسان، صانعُ النفوس، المثلُ والقدوة.

في يومِك أيُّها المعلِّم، وأنا معلِّمٌ جامعيٌّ، إلّا أنّني ما زلتُ مَسكونًا بحبِّ معلِّمي واحترامِه، وعندما ألتقي مَن بقي منهم على قيدِ الحياة أسترجعُ طفولتِي، وأخضعُ لوقارِه وهيبتِه، وأتلعثمُ ويخونُني التعبيرُ أمامَ جلالِ رسالتِه، وأحسبُ أنّنا جميعًا تربَّينا على ذلك.

وتأمّلوا معي ما قالَه بعضُ المشاهيرِ والمفكّرينَ عن المعلِّمِ وقيمةِ العلم:

سقراط: ينبغي للعالمِ أن يُخاطبَ الجاهلَ مخاطبةَ الطبيبِ للمريض.

أحمد أمين: المعلِّمُ ناسكٌ انقطعَ لخدمةِ العلم كما انقطعَ الناسكُ لخدمةِ الدين.

أحمد شوقي: قُم للمعلِّمِ وفِّه التبجيلا كاد المعلِّمُ أن يكونَ رسولًا.

بوب تالبرت: المعلِّمُ الموهوبُ مُكلِف، لكنَّ المعلِّمَ السيّئَ أكثرُ كُلفة.

ويليام برنس: تقديرُ المعلِّمِ هي أغلى جائزةٍ يطمحُ إليها.

شيشرون: المعرفةُ فنّ، ولكن التعليمَ فنٌّ قائمٌ بذاتِه.

جبران خليل جبران: تقومُ الأوطانُ على كاهلِ ثلاثة: فلاحٍ يُغذِّيها، وجنديٍّ يحميها، ومعلِّمٍ يُربّيها.

الإسكندر المقدوني: أنا مدينٌ لوالدي لأنّه أمَّنَ لي الحياة، ومدينٌ لمعلِّمي لأنّه أمَّنَ لي الحياةَ الجديدة.

كامل درويش: ما أشرقت في الكونِ أيُّ حضارةٍ إلّا وكانت من ضياءِ معلِّم.

توماس كاروترس: المعلِّمُ هو الشخصُ الذي يجعلك لا تحتاجُ إليه تدريجيًّا.

فيلوكسين: إنَّ معلِّمينا هم الذين يُعطوننا الطريقةَ لنحيا حياةً صالحة.

أحمد رفيق المهدوي:
فما قدَروا حقَّ المعلِّمِ قدْرَهُ *** ومن حقِّه، كالوَالِدَيْنِ، يُعظَّمُ

ليوناردو دافنشي: مَن لا يتفوّق على معلِّمه يكن تلميذًا تافهًا.

سي إس لويس: مهمةُ المعلِّمِ الحديثِ ليست أن يُخلي الأدغالَ ويمهّدَها، بل أن يرويَ الصحارى.

بيل غيتس: التكنولوجيا مجرّدُ أداةٍ، أمّا في تحفيزِ الأطفالِ وجعلِهم يعملون معًا، فالمعلِّمُ هو الأهمّ.

شْبِنغْلِر: من معلِّمي تعلّمتُ الكثير، ومن زملائي أكثر، ومن تلاميذي أكثرَ وأكثر.

ولأنَّ المعلِّمَ – مهما طال به الزّمنُ والخبرة – يبقى معلِّمًا، ولا يطمحُ لأكثرَ من القيمةِ والتقديرِ من الجميع، كما قالَ ويليام برنس:

> “تقديرُ المعلِّمِ هي أغلى جائزةٍ يطمحُ إليها.”

ولنا في تجربةِ سنغافورة وباني نهضتِها الحديثة لي كوان يو عِبرةٌ، إذ قال:

“أنا لم أقم بمعجزةٍ في سنغافورة، أنا فقط قمتُ بواجبي نحو وطني، فخصّصتُ مواردَ الدولةِ للتعليم، وغيّرتُ مكانةَ المعلِّمين من طبقةٍ بائسةٍ إلى أرقى طبقةٍ في سنغافورة. فالمعلِّمُ هو مَن صنعَ المعجزة، هو مَن أنتجَ جيلًا متواضعًا يحبُّ العلمَ والأخلاق، بعد أن كنّا شعبًا يَبسقُ ويَشتمُ بعضُه في الشوارع.”

نعم… هذا ما نحتاجُه، لنُصحِّحَ مسيرتَنا ونُطوِّرَ أُمَّتَنا وبلدَنا.
المعلِّمُ… لا تقولوا له “لا”، ولا تبخلوا عليه بالمال، قدِّروه حقَّ تقديرِه، ليس لذاتِه، ولكن لأنَّ المعلِّمين هم بُناةُ الأوطان، وملاذُ الحُكمِ عندَ النُّكوصِ أو الهزيمةِ أو الرِّدّة.
هم أبسطُ من أن تُناكِفوهم؛ صبروا وعلَّمونا الصبرَ، وأنَّ الأوطانَ عطاءٌ.

في يومِكم… نعتذرُ لكم، لأنَّنا لم نجعلْ منكم أيقونتَنا بعد…
حمى اللهُ الأردنَّ