السلط تصافح غور الأردن عبر وادي شعيب

16 يناير 2023
السلط تصافح غور الأردن عبر وادي شعيب

زيدان كفافي

حملتني السيارة ميمماً وجهي إلى غور الأردن متبعاً وادي شعيب طريقاً. وصلت أطراف مدينة السلط الشرقية وانحدرت بي السيارة حتى بدأت أعد الإشارات الضوئية على الطريق المنحدر ، الواحدة تلو الأخرى. ووصلت إلى آخر واحدة منها، ونظرت إلى يميني، رأيت المباني المتراكبة تفصل بين أحيائها أدراج ضيقة، علوت بنظري فرأيت القلعة، ثم مدرسة السلط ذات العبق التاريخي والجذور المعرفية، المدرسة المطلة على منطقة الجادور (من العصر البرونزي الأخير حوالي 1550-1200 قبل الميلاد).  ولا ننسى أن المدينة قد سُجلت مؤخراً على لائحة التراث العالمي. 

خفت أن أنسى أنني ذاهب إلى الأغوار، حيث تناولني شعور الاستطلاع لأرقب بيوت السلط القديمة بيت طوقان (متحف  آثار السلط حالياً)، وبيت أبو جابر . هممت أن أسأل الناس عن أنسباء لجدي عبد الفتاح (تزوج زوجتان من السلط)، وأخاه مصطفى (زوجته سلطية)، وتذكرت أيضاً أن لي ابن عم (زوج خالتي) ساكن في السلط (توفاه الله قبل سنوات). كل هذا أمرني بأن أغير وجهتي  وأن أزور قاع المدينة، لكنني تنبهت أنه لا بد لي من أن أغمض عيني عن عبق التاريخ والقرابة ، إذ لا بد من الاتجاه  إلى اليسار حيث سوق الخضار،  هذه الطريق عرفتها عامي 1988 و 1989م عندما كنّا ننقب في موقع على الطريق العام ويبعد حوالي 9كم عن السوق.

وأنا أكتب هذه الخاطرة تتنازعني الرغبة في أن أدخل إلى داخل مدينة السلط وأبدأ الحديث حول آثارها وتاريخها، وحيث أنني أكتب خاطرة لا بحثاً، لذا قررت ألاّ أفعل، بسبب أنني لن أفي المدينة حقها ، وأقدم كل المعلومات عنها ، لأن لكل حارة من حاراتها تاريخ، ولكل عائلة من عائلاتها الكريمة تاريخ ، لكن تاريخ الحارات والعائلات متصلاً ومتشابكاً وليس منفصلاً، كما أن المدينة متصلة بتاريخها مع الفضائين القريب والبعيد. لذا، وجدت من الأفضل أن أترك المدينة بحالها، وأن أمضي بالسيارة على طريق وادي شعيب.  

أغمضت عيني عن جمال المدينة، لكن بريق دهان بيوتها الأصفر ما زال يبرق بعيني، أدرت ظهري لسوق الخضار ومضيت باتجاه الأغوار، وفجأة وعلى يمين الشارع، وفي منطقة “خربة السوق” ظهرت لي مقابر منحوتة في الصخر، أعتقد، والله أعلم، أنها رومية.كنت أتمنى أن أرى أمام هذه القبور سياجاً، وأن أقرأ لافتةً تزودني بمعلومات حولها.  وللأسف، وحسب ما قاله لي أحد الزملاء،  فإن التمثال الذي وجد في داخلها قد اختفى…!

موقع خربة السوق الرومي  (اللون الأزرق) وخربة جزير من العصر الحديدي (اللون الأحمر) على مجرى الوادي

(بإذن من جهاد هرون)

هنا برز بذهني سؤال: لماذا سمي هذا الوادي باسم وادي شعيب؟ خاصة أن شعيب كان في مدين التي تقع  بشمال غربي الجزيرة العربية واعتماداً على المادة الأثرية المكتشفة ربما نضم لها جنوبي الأردن وفلسطين.  حاولت التفكر بالأمر، فقلت أنه وخلال الفترة الأيوبية المملوكية أقام حكامها عدداً من المقامات والصحابة، فهذا واحد منها، ولا يبعد بتاريخه عن تاريخ مقام النبي هرون في البترا.  على أي حال، تنبهت أن هناك شريان يربط بين السلط المدينة ونهر الأردن ، هو وادي شعيب. هذا الوادي الذي كان طريقاً رئيساً ووحيداً الذي ربط غربي النهر بالبلقاء. 

يبلغ طول وادي شعيب 18 كيلومتراً ،  ويتزود بالمياه من عدد من الينابيع إضافة لمياه الأمطار. قسم المتخصصون مجرى الوادي بيئياً إلى ثلاثة أقسام، هي: غابات البحر المتوسط، هضاب جبلية وأخيراً المناطق الشجرية والينابيع المحاذية لمجرى الوادي.

قام عدد من الرحالة من أمثال هنري تريسترام (Henry B. Tristram) في عام 1874م، وسيلاه ميريل (Selah Merrill) في عام 1881م، ووليم طومسون (William Thomson) في عام 1882م وكلود كوندر (Claude R. Conder) في عام 1889م بزيارة لمنطقة الوادي وسجلوا ملاحظاتهم ونشروها في تقاريرهم .

كذلك فقد تابع الباحثون خلال القرن العشرين  زيارة الوادي والمواقع الأثرية فيه من أمثال وليم أولبرايت ، ونلسون غلوك، وفريق المسح الأثري لوادي الأردن (معاوية إبراهيم، وخير ياسين ، وجيمس سيوار)، وكارين رايت في عام 1988م. ولم تجرى في الوادي إلاّ بعض الحفريات الأثرية البسيطة مثل تلك التي قام بها فريق جامعة اليرموك بالمشاركة مع فريق أمريكي عامي 1988 و 1989م، لكن أهمها حفرية تل نمرين (العصور البرونزية والحديدية) في المنطقة الفيضية للوادي في منطقة الأغوار بإشراف محمد خير ياسين وجيمس فلانغان، في عامي 1988-1989م، وموقع “الغروبة” الذي يعود للعصر الحجري الحديث الفخاري/ العصر الحجري النحاسي وأجراها الانجليزي James Mellaart  في عام 1953موكلاهما يقع  بالقرب من مدينة الشونه الجنوبية

أما آخر المشاريع الأثرية التي جرت في وادي شعيب، فهي المسوحات والحفريات الأثرية التي أجراها الألماني ألكسندر آرنز (Alexander Ahrens)من معهد اللآثار الألماني ببرلين ابتداء من عام 2016م وما زال المشروع قائماً. وذكر هذا الباحث أن هذا الوادي كان ولا يزال معبراً للمجموعات البشرية من العصر الحجري الحديث وحتى الوقت الحاضر. كما أن طريق وادي شعيب كانت الطريق الوحيد الذي ربط بين مدن فلسطين ومدن الأردن  طوال فترة طويلة من القرن العشرين.

(بإذن من Alexander Ahrens)

بعد هذه المقدمة حول العمل الأثري في وادي شعيب وقفت بنا السيارة أمام الموقع الذي أجريت فيه حفريات أثرية بمشاركة كل من الدكتور آلان سيمونز وغاري رولفسون، وبالتعاون مع دائرة الآثار العامة الأردنية. وعثرنا في الموقع على بقايا آثار من معمار وأدوات صوانية وأواني فخارية تعود للفترة بين حوالي 7250 – 5000 قبل الميلاد.  وحتى نتثبت من صحة ودقة تأريخ الموقع قمت يوم الخميس الموافق  31/ 3/ 2022 مع الدكتورة سحر الخصاونة من جامعة اليرموك بأخذ عينات من طبقة الحصى فية للحصول على تواريخ جديدة باستخدام وسيلة مخبرية علمية أحدث من الطرق التي اتبعناها قبل حوالي ثلاثين عاماً.  وجدت الموقع وقد دفن ، وأن صاحب الأرض قد استصلحها للزراعة، وهذا من حقه.  يا الله ما أجمل المنطقة ، إذ أن هناك نبع ماء على يسار الشارع ولا يبعد كثيراً عن الموقع، تحفه الأشجار من كل جانب.

    

أخذ عينات من طبقة الحصى في الموقع بتاريخ 31/ 3/  2022

 تابعت السير  وأنا أرقب جمال الطبيعة على جانبي وادي شعيب حتى وصلت إلى مكان يسمى “جسر الخشب” حيث يتواجد متنزه في المكان، وهنا تنبهت إلى أن فريق من معهد الآثار الألماني ببرلين برئاسة الدكتور “ألكسندر آرنز” قام بمسوحات شاملة للمنطقة وحفر مجسات أثرية  في بعض المواقع فيها مثل “جسر الخشب”، و “تل بليبل”. وأثبتت الحفريات الأثرية في موقع جسر الخشب أو “جسر العراقيين” الذي يتمركز عند التقاء واديي “شعيب” و” العمر” أنه يعود لحوالي 10.000 سنة من الحاضر .أما موقع تل بليبل فيحاول التوراتيون بانه موقع “بيت-نمره  Beth-Nimrah” على الرغم من عدم وجود ما يثبت هذا الإدعاء. على أي حال، فقد كشفت الحفريات الأثرية في الموقع عن وجود بقايا أثرية تعود للفترة بين حوالي 1000 و 600 قبل الميلاد، يعلوها آثار  من العصور البرونزية والرومية والبيزنطية 

وإضافة لهذه المواقع المذكورة أعلاه ، لا ننسى أن هناك موقع “خربة شعيب” القريب من جامع ومقام النبي شعيب، والذي ازدهر خلال خلال الفترة الرومية-البيزنطية (حوالي 100 قبل الميلاد –  614 ميلادي)، والتي كانت عبارة عن عزبة زراعية. كما أن هذه العزبة استمرت مسكونة خلال الفترات الإسلامية  حتى بداية القرن العشرين. 

بدأ يطل علينا غور الأردن  ولاحظنا تغيراً في طبيعة المنطقة جغرافياً عن تلك التي خلفنا، بل تغير أيضاً اسم الوادي من “وادي شعيب” إلى “وادي نمرين”.  وتطل علينا مجموعة من المواقع الأثرية في هذه المنطقة المحيطة ببلدة الشونة الجنوبية ومن أهمها تل نمرين  الذي ذكرناه أعلاه. 

ما كتبناه أعلاه هو موجز لا يفي بإعطاء المنطقة حقها، كما أنه ومقارنة مع النشاطات الميدانية الأثرية في المناطق الأردنية الأخرى، نجد أن قليل منها جرى في هذه المنطقة. وهذا أدى بالتالي إلى قلة المعلومات حول آثار وادي شعيب. لذا نتمنى أن يلتفت الزملاء من مؤرخين وآثاريين لدراسة آتاريخ و ثار هذا الوادي، والذي كان عصب الحياة في الأردن من الأيام.

زيدان كفافي 

عمّان في 15/ 1/ 2023م

مراجع لمن يرغب:

  • Ahrens, A. 2016. From the Jordan Valley Lowlands to the Transjordanian Highlands: Preliminary Report of the Wadi Shuʿayb Archaeological Survey Project 2016. Annual of the Department of Antiquities of Jordan 59: 631-648.

  • Ahrens, A. 2018. Revisiting Ḫirbet Ğazzīr and Ḫirbet aṣ-Ṣūq on the Transjordanian Plateau: Archaeological and Chronological Remarks on the Search for Biblical Jazer. Zeitschrift des Deutschen Palästina-Vereins 134.2: 177-189.
  • Glueck, N. 1943. Some Ancient Towns in the Plains of Moab., Bulletin of the American Schools of Oriental Research 91: 7-26.

  • Simmons, Alan et al 2001; Wadi Shu’eib, A large Neolithic Community in Central Jordan: Final Report of Test Investigations. Bulletin of the American Schools of Oriental Research 321:1-39. 

  • de Vaux, R. 1937. Exploration de région de Salṭ, Revue Biblique 47: 398-425.