الأعداد والصاع /المكيال الأول في بلاد المشرق

5 يناير 2023
الأعداد والصاع /المكيال الأول في بلاد المشرق

 

زيدان كفافي

كنا في الخاطرة السابقة قد أشرنا إلى أن الخاطرة التي تليها ستكون حول الأعداد والمكاييل الأولى في بلاد الشرق الأدنى القديم (المشرق)،  معتمدين في معلوماتنا  على بحث سبق نشره في الكتاب التكريمي المقدم للمرحوم سمير شما، وعنوان البحث “المظاهر الاقتصادية لدى المجتمعات الزراعية الأولى في الشرق الأدنى القديم: النقود الرمزية والأعداد والمكاييل”.  

العدد:

خلال النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد، شهد الشرق الأدنى القديم نشأة المدن الأولى، وجاءت أفضل الأمثلة عليها من جنوب وادي الرافدين (كفافي 2005). وأدى الانتقال إلى الزراعة وتدجين الحيوان، ثم صهر المعادن، إلى فائض في الإنتاج، مما نتج عنه تكوين الثروات. ونتج عن هذا التحول الاقتصادي أيضًا نشوء طبقات اجتماعية جديدة تكونت من ملاك الأراضي وأصحاب الحرف، الأمر الذي أدى إلى ازدهار بعض المهن والصناعات، مثل صناعة الأواني  الفخارية والنحاسية والجلدية، وهذا أدى بدوره إلى معرفة التجارة، حيث أنشأ التجار أسواقًا وحوانيت لبيع بضائعهم وتسويق فائض إنتاجهم، وبيع ما يستوردونه من خامات وبضائع.

وتسهيلاً لتلك المبادلات التجارية، عرف الناس بداية الكتابة على الطين، فقد مثل السومريون المقاطع اللفظية للغة بأشكال مختلفة، وكما في الكلمات، فإن أشكالاً محفورة متنوعة كانت تمثل أرقامًا مختلفة (ماكليش 51:1999)، وقام السومريون كذلك
بعمل حفر على أطراف الرقم الطينية، ربما تمثل
أعدادًا لها قيم، لكننا لا نزال نجهلها (شكل 1) (Nissen et al. 1993: 13). وفي مرحلة لاحقة ومتقدمة، وضع السومريون نظامًا لمنازل الأعداد، أي أن منزلة كل رقم في العدد تدل على قيمته، إلا أن نظام المنازل هذا عانى من خلل عدم تخصيصه رمزًا للصفر.

وبهذا يتبين أن البداية الأولى لاستخدام الأعداد الرقمية (أي الأعداد: واحد، اثنان، ثلاثة) كانت في حوالي 3100 قبل الميلاد. ولاحظ الباحثون أن الكاتب في مدينة الوركاء في هذه الفترة، أي نهاية الألف الرابع قبل الميلاد، وضع علامتين على الرقيم الطيني، الأولى مضغوطة تمثل العدد، والثانية محفورة وتمثل نوع البضاعة (شكل 3ب). وخير مثال على هذا رقيم طيني عثر عليه في موقع الوركاء، إذ طبعت على أحد وجهيه خمسة أشكال إسفينية، وحفرت دائرة بوسطها صليب وكلتاهما تمثل العدد خمسة (Schmandt-Besserat 1992: fig. 114). ويعد هذا المثال في علم الحساب الأقدم في العالم.

إذن كانت الأعداد الرقمية الأولى إشارات مضغوطة على الطين، دلت في البداية على وحدات من البضائع، مثل كيل كمية من الحبوب، استعيض عنها بقيمة عددية في وقت لاحق. فعلى سبيل المثال، أشارت الإشارة الإسفينية في بادئ الأمر إلى كمية قليلة من الحبوب، أما الآن؛ فقد أصبحت تعني العدد واحد (1)، بينما مثل شكل الدائرة كميات كبيرة من الحبوب، ثم أصبح لاحقًا يقابل العدد عشرة (10)، أما الشكل الإسفيني الكبير والشكل المكور أو المستدير الكبير، فيشير كل منها إلى أعداد ذات قيمة أكبر. 

تطور هذا النظام العددي خلال العصور اللاحقة، سواء في زمن البابليين أو اليونان أو الرومان، إلا أنه شهد تطورًا مهمًا في حوالي 700 قبل الميلاد عند معرفة ما يسمى «الأعداد العربية»، والتي ظهرت لأول مرة في الهند. ويظهر الشكل 2 إشارات الأعداد وقيمها التي استخدمت في الوركاء في المرحلة السابقة لاستخدام الخط المسماري كما نشرها العالم الألماني هانس يورغ نسن H. Nissen ورفاقه.

 

شكل 1: رقم طينية حفرت فيها طبعات تمثل أعدادًا

(عن Nissen et al. 1993)

شكل 2: إشارات الأعداد وقيمها كما استخدمت في الوركاء في المرحلة السابقة لاستخدام الخط المسماري
(Nissen et al. 1993: Fig. 27)

 

الصاع/ المكيال الأول في العالم:

شهد النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد في بلاد الشرق الأدنى القديم عامة، وفي بلاد الرافدين خاصة، مرحلة حضارية متقدمة أطلق عليها الباحثون اسم «مرحلة التمدن». وهذه السمة هي التي صبغت المرحلة اللاحقة اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا. ويسمي العلماء الذين يدرسون حضارة وآثار بلاد الرافدين الفترة الواقعة بين حوالي 3500 إلى 3100 قبل الميلاد باسم «الوركاء المتأخرة». وقد شهدت هذه الفترة معرفة  الكتابة واستخدام الأختام الأسطوانية، وظهور فنون جديدة، مثل نحت التماثيل الكبيرة وبناء العمائر الضخمة. وعلى الرغم من أن كثيرًا من تلك المظاهر بدأ في الفترات السابقة، إلا أنها شهدت تطورًا كبيرًا في هذه المرحلة. إلا أن ما يعنينا هنا هو مناقشة بعض النواحي الاقتصادية وكيفية إدارتها. وأفضل مثال على هذا الأمر هو ظهور نوع جديد من الأواني الفخارية (شكل 3) أطلق عليها الباحثون «الأواني الجَرسية الشكل ذات الحواف المشطوفة» Beveled-rim bowls.

شكل 3: قصعة فخارية (عن Nissen et al. 1993)

وتأتي أهمية هذه القصعات (الأواني الجَرسية) من أنها مصنوعة من عجينة خشنة، ولها حافة مشطوفة، وقطر قاعدتها أقل من قطر فوهتها، ومصنوعة بالقالب، مما يعني أن أحجامها موحدة مع وجود بعض الاختلافات البسيطة (Sürenhagen 1978: no. 104; Nissen 1988: 83). وقد عثر على أعداد كبيرة من هذه القصعات في المواقع المؤرخة لفترة الوركاء المتأخرة وما بعدها. وعلى الرغم من الاختلاف في أحجام بعضها، إلا أنها كانت بمجملها متشابهة الحجم. وحيث أنها مصنوعة بالقالب، ولها الحجم نفسه، وتنتشر بأعداد كبيرة فوق منطقة واسعة من الشرق الأدنى القديم، ومصنوعة من عجينة صلصالية خشنة قابلة لرشح السوائل، فقد رأى المختصون أنها استخدمت لحفظ المواد الصلبة (Nissen 1988: 84). ومن ناحية ثانية، ربما مثلت هذه القصعات مظهرًا موحدًا من المظاهر الاقتصادية، انتشر فوق منطقة واسعة من الشرق الأدنى القديم.

وتذكر النصوص المؤرخة للفترات اللاحقة للوركاء المتأخرة أن طبقة اجتماعية تكونت من العمال الذين كانوا يتقاضون أجورهم بالحصول على كميات من الحبوب. ولهذا، جاء افتراض أن تلك القصعات كانت تستخدم وحدة كيل للحبوب في العصور القديمة، كما هو الحال في «الصاع» أو «المد» قبل أكثر من خمسين عامًا. أي أن العامل كان يتقاضى أجره عن اليوم الواحد بأن يدفع له ملئ هذه القصعات من الحبوب. ويدعم القائلون بهذه الفرضية ذلك بالاستدلال بإشارة «الأكل» التي كانت تستخدم في هذه الفترة على شكل حفر رأس إنسان إضافة إلى القصعة (شكل 4). وعلى هذا الأساس، نستطيع القول إن هذه القصعات شكلت وحدة  كيل ونوعًا من النظام الاقتصادي الموحد الذي عم كيل ونوعًا من النظام الاقتصادي الموحد الذي عم  المنطقة قبل آلاف السنين.

شكل 4: قصعة حفرت عليها إشارة الأكل (عن Nissen 1988)

 

وخاتمة القول، إن سكان بلاد الشرق الأدنى القديم عامة، وسكان بلاد الرافدين خاصة، كان لهم الفضل في وضع اللبنات الأولى للنقود، فصنعوها من الحجارة والطين، وكان لكل شكل منها قيمة عددية محددة، كما كانوا أول من عرف منازل العدد، وكانت هذه الشواهد جميعها قد وضعت اللبنات الأولى لمعرفة الكتابة في تاريخ الحضارة الإنسانية. ولم يكتف الناس في هذه المنطقة بتلك الاختراعات المهمة، إنما عرفوا كذلك نوعًا من النظام الاقتصادي الموحد الذي عم منطقة واسعة من بلاد الشرق الأدنى القديم. 

الصاع في  الحاضر:

وردت كلمة  صواع في سورة يوسف في القرآن الكريم (قالوا نفقد صُواع الملك)، وهو آلة للكيل تقدر سعته بوزن رطل وربع أو ثلث، ويرى آخرون أن سعته تبلغ 2600 غرام على وجه التقريب. على أي حال، تختلف

صاع من الخشب وآخر من المعدن (عن الانترنت)

 

الصاع والمد  (عن الانترنت)

سعة الصاع  حسب مقدار حجمه. ويصنع الصاع إما من المعدن أو من الخشب. والصاع يساوي أربعة أمداد بمد النبي  محمد عليه الصلاة والسلام. ولا زلت أذكر كيف  كان الأطفال والحلاّقون وأصحاب الذمم   يتجمعون على البيدر بعد أن ينهي الفلاح  تذرية  الحبوب بعد درسها، ويعمل منها كومة حب ، يسميها الفلاحون “صليبا/صليبه” ويأخذ كل منها نصيبه من الحبوب بعد أن يكيلها  عليهم، كلٌ ما يستحق.

رحم الله أجدادنا (صورة من الانترنت)

الهدف من هذه الخاطرة أن نثبت لمن لا يعلم أو لا يريد أن يعرف  أن تراثنا الحضاري ممتد وبشكل متصل منذ آلاف السنين، ولم يدر بخاطرنا أن نتحدث باسهاب حول المكاييل وتطورها منذ الألف الرابع قبل الميلاد وحتى الحاضر. وبالمناسبة فإن الصاع الأقدم في العالم بدء بجنوبي العراق وكان يصنع بالقالب وامتدت وحدات الكيل هذه خلال الألف الرابع قبل الميلاد في بلاد ما بين النهرين (أي تشمل المنطقة من الخليج العربي وحتى أعالي دجلة والفرات. أما في بلاد الشام فقد ظهرت أواني مشابهة  لصاع وادي الرافدين، وجاءت متعددة الأحجام لكن الآثاريين المتخصصين في بلاد الشام لم يتنبهوا  إلى أنها ربما تكون وحدة كيل.  بلادنا العربية هي أصل الحضارات العالمية الأولى، هذا ليس قولاً لكن آثارنا تدل علينا. 

والله من وراء القصد.

زيدان كفافي

عمّان في 5/ 1/ 2023م.

مراجع للقراءة لمن يرغب:

كفافي، زيدان 2005؛     أصل الحضارات الأولى. الرياض: دار القوافل

ماكليش، جون 1999؛  العدد من الحضارات القديمة حتى عصر الكمبيوتر. سلسلة عالم المعرفة 251. ترجمة خضر الأحمد وموفق دعبول ومراجعة عطية عاشور، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب.

   

Bienkowski, P. 2000; Weights and Measures. Pp. 318-319 in P. Bienkowski and A. Millard (eds.), Dictionary of the Ancient Near East. London: The Trustees of the British Museum.   

Nissen, H. J. 1988; The Early History of the Ancient Near East, 9000-2000 B.C. Chicago: The University of Chicago Press.

Nissen, H. J., Damerow, P. and Englund, R. K. 1993; Archaic Bookkeeping. Writing and Techniques of Economic Administration in the Ancient Near East. Chicago: The University of Chicago Press.

Schmandt-Besserat, D.1992; Before Writing, Volume I. From Counting to Cuneiform. Austin: University of Texas.

Sürenhagen, D.1978; Keramikproduktion in Habūba Kabira-Süd. Untersuchungen zur Keramikproduktion innerhalb der Spät-Urukzeitlichen Siedlung Habūba Kabira-Süd in Nordsyrien. Berlin: Verlag Bruno Hessling