د. عادل يعقوب الشمايله
إنَّ الرسالةَ، التي تهدفُ السياساتُ التربويةُ في الدولِ المتقدمةِ، ايصالها لقارئي التاريخ من خلال المناهج لطلبة المدارس والجامعات، ليس تقديس الماضي والتفاخرَ والزهوَ به، والسعي لتكراره، وإنما العكسُ هو الصحيح والمُبتغى. الهدفُ هو الإقرارُ والاعترافُ بالاخطاءِ التاريخيةِ التي ارتكبتها أنظمةُ الحكمِ المُنقَرضةِ ومنْ ثَمَّ تَقبلِ الخجلِ منها والاعتذارِ عنها، والإتعاظِ والتعهدِ بعدمِ تكرارها البتة وإثباتها كخطأٍ تاريخي وخطيئةٍ أخلاقيةٍ ودينية.
لا يُفاخرُ مُعظَمُ الألمان المعاصرين بما فعلهُ آبائهم وأجدادهم في الحربين العالميتين سواءاً مع الشعوب الاوروبية الجارة والشريكة في المُعتَقد الديني التي غزوها ودمروا منجزاتها وقتلوا الملايين من افرادها، أو ما فعلوه باليهود.
الامرُ ينطبقُ على نسبةٍ عاليةٍ من الامريكيين الذين يُعانون من أزمة اخلاقيةٍ وتعذيبٍ للضمير لأنهم يرونَ أن جلبَ الافارقة واستعبادهم وعدم الاعتراف بإنسانيتهم لم يعد شيئا يُفتَخرُ به أو يُقبَلُ بهِ كما كان اجدادهم يفعلون، وإنما امراً يُخجلُ منه وعبٌ أخلاقي يئِنُّ منهُ الضمير. لذلك تتبنى الحكومةُ الامريكيةُ المُنتخبةُ من الشعبِ سياساتٍ تُعَبِرُ عن تَبدُلِ القيمِ الامريكية من الهمجيةِ والغطرسةِ التي تميَزَ بها الكاوبوي والتاجرُ والصانعُ والمزارعُ الجَشِعْ، الى التحضر واحترام حقوق الانسان والدفاع عنها داخليا وعلى الساحة العالمية.
الامثلةُ مشابهةٌ في بقيةِ الدولِ الغربيةِ وخاصةً جرائم الاستعمار الفرنسي الغاشم المتوحش في الجزائر وفيتنام والهند الصينية وافريقيا.وجرائم بلجيكا وهولندا والبرتغال.
هذا لا يعني أنَّ كافة الغربيين قد تطهروا واصبحَ كلُّ واحدٍ من هُم مسيحاً يمشي على الارض، او مُستَعداً للتطهرِ من نجاسات الماضي، وأَنهم شعوباً وحكومات أصبحوا مثاليين. لا أقول ذلك، ولكن اقول أنهم شرعوا وأنهم قطعوا بضعَ خطواتٍ في مسار الالف ميل. فالنازيون الجدد يُمَجِّدون هتلرَ وافعالهِ ومستعدون لتكرارها. وكذلك دُعاةُ اليمينِ المتطرف في امريكا واوروبا واستراليا وكندا. هذا بعني أن الصراع لا زال محتدماً بين الخير والشر. بين دعاة الحياة ودعاة الموت، بين المنادين حيَّ على الجنة وبين المنادينَ حيَّ على النار.
المتعصبونَ وهواةُ التمييزِ يَبقونَ كما الغربانُ والبومُ بين بقية الطيور. هم جزءٌ من عالم الطيور ولكنهم ليسوا كُلَّ الطيور. لذلك دعونا لا نشجع الغربانَ والبومَ على التكاثر والانتشار من خلال قتل الحمام والشنار والحجل. لا تصدقوا أنَّ العيونَ التي في طرفها حَوَرٌ تقتلُ ولا تُحيي قتلاها.
تُرى، ماذا نقول لمن لا زالوا يُمَجدونَ صدام حسين رغمَ كل ما فعله بالاكراد وبالشعب العربي الكويتي وبالشعب العراقي نفسه؟
ما هو رأيُ من يؤيدون النظام في سوريا رغم الهيلوكستات التي ارتكبها في سوريا منذ بداية السبعينات؟
ما هو موقف الاسلام السياسي من الإبادات الجماعية التي ارتكبها نظام عمر البشير في السودان خلال ثلاثين عاماً؟
ماذا عن جرائم الحجاج وزياد بن ابيه واستباحة المدينة المنورة مدينة الرسول إنتقاما لهزائم بني امية منذ الهجرة وحتى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم “إن صدقت الرواية التاريخية”؟
ماذا عن ما أُرتُكِبَ في فتح عمورية على يد المعتصم “إن صدقت الرواية التاريخية” حيثُ أبيدت مدينةٌ وسبي من بقيَ من أهلها أحياءَ عقاباً على تحرش معتوهٍ بامرأة؟ حينها يحق لنا التذمرُ والتشنيع على جرائم اسرائيل في الضفة وغزة. بل وجرائم الغرب البشعةِ.
متى سيدركُ الصهاينةُ في فلسطين وخارجها، أنَّ تنكيلهم بالفلسطينيين لن يُخففَ من الام ما فعلهُ هتلرُ بهم، وما عانوه في دول اوروبا من تمييز واصطهاد؟ متى سيدركُ اليهودُ في فلسطين أن غربتهم التاريخية لا زالت مستمرة وستستمر رغم عودتهم الى فلسطين؟
بمعنى أن فلسطين لن تكون وطناً لهم home sweet home طالما انهم لم يحترموا بنود الوعد الذي أُعطي لهم وأتى بهم. طالما أنهم لا يعترفون بشركائهم بالوطن كما نص الوعد وأنه home sweet home للفلسطينيين ايضاً. وما داموا يصرّونَ على أن يكونَ الوطنُ ساحة معركةٍ وليس حضنَ أُمٍّ تملأهُ المودةُ والرحمة. متى يتذكرون ما يعرفونه اكثر من غيرهم أنه عندما تنفرطُ الشركةُ تصبحُ التصفيةُ أحد الخيارات؟
متى تتحولُ شجاعةُ الفتكِ التوراتية الى شجاعةِ الحذف، فيحذفوا من التوراة كافةَ النصوصِ التي تبيحُ لهم قتلَ الاخرين وإبادتهم وحرقهم وحرق حتى حيواناتهم وينسبون تلك النصوص ظلما وعدوانا الى الله وأنهُ سَخَّرَ لهم العالمين؟
متى ثُمَّ متى؟ متى نُدَرِّسُ التاريخَ ونَدرُسهُ لأخذِ الموعظةِ والتعهدِ بعدمِ تكراره؟ متى سيتمُّ الاعترافُِ بحقوقِ الانسانِ كأنسان؟ متى ستُعتَبرُ عقوبةُ الاعدامِ والمؤبد لمن يرتكب الجرائم أنها ليست عقوبةً، وإنما حقٌ من حقوق الانسان، مثلها مثل تمجيد ومكافأة المبدعين ومن يقدمون منجزاتٍ تُسعد الانسان، أو على الاقلِ تُقَللُ من شقاءه.