بقلم: الكاتبة فايزة الفالح
عُدت يا ذكرى الفارس المُترجل ، وبأي حال عُدت إلينا
عُدت ولم يتبقى لنا سوى الألم والهم الذي أهمَّ بنا ليهيِّم على كل همٍ وألآم كل مهموم ، كل همه كيف يجلب الدواء من بطونٍ متخمة لا يملؤها إلا الداء .
لم تعد ذكراك يا وصفي مجرد ذكرى ، وإسترسال الدموع
و التغني بالوطنية ، وأهازيج نستدعي ملامحها من بيتك الذي بقيت تبنيه أعوام طوال ،من مرتبك الضئيل مقارنة مع مرتبات رؤساء الوزارات الذين تعاقبوا على كرسيك ببيت الوزارة ، ولم تعد ذكرى رحيلك مجرد تأريخ يمر علينا من كل عام ، لقد تغير يا وصفي الحال بالحال ، ولم تعد صورك التي تملئ ذاكرة الوطن وذاكرة جيل بأكمله مجرد صور تزدان بها الجدران والمجلات والصحف وشاشات الفيس بوك ، إنما اصبحت نبش جراح قيَّضتها صوارم ما نحن عليه اليوم ، ولم تعد كلماتك مجرد كلمات لنستنهض بها الهمم ، ولكن اصبحت كلمات أوقدت فينا السخط على مَن جعلونا غرباء ، على مَن ابتاعونا أحياء لنكون عبيدا ونحن أمهاتنا الحرائر ، وأبائنا الأحرار ، وما أشبه اليوم بالبارحة !!! .
صورة خالدة
لم تعد الصورة الخالدة لك بذهني مجرد صورة،وأنت تجلس على مكتبك واضعا كفك على خدك ، ونظراتك التي تعدت حجرتك وكأنها اخترقت جدران كل بيت أردني لتضع يدك على هم كل مواطن حيث كان،لعلك
يا وصفي حملت الهم باكرا قبل الآوان ، وعرفت بأن الأردن غريب عن الأوطان.وعرفت بأن حمائمها ستكون وليمة للغربان ، وبأن أُسُدُها مقيدة وراء القضبان ، وبأن الأحرار الذين انجبتهم من فكرك الحر مكبلين بالأصفاد وبأن منارة وطنيتهم استبدلت بظلام القهر والذل والحرمان ، فلقد عادت ذكرى رحيلك و أنت شهيد أمة وكم من شهيد قُتِل وأُخِذَ غدرا لأنه على موحشات الوطن و على منكرات الزمان كان شاهد عيانا على إستبدال الحق المبين بالضلال المبين .
فوق التل تحت التل احنا رجالك وصفي التل
إنه إستحقاق وسام الشرف من الدرجة الأولى والذي نالها وصفي التل من الجماهيرية الشعبية بكل أطافيها حينما كانوا يهتفون بكل عفوية ومصداقية ، فوق التل تحت التل ، احنا رجالك وصفي التل ، عَقِب ذاك الأيلول الأسود ، والذي بدأت احداثه من 16 و27 سبتمبر 1970 مع استمرار بعض الأعمال حتى 17 يوليو 1971،حيث قام وصفي التل بالتعاون مع المشير حابس المجالي بتشكيل حركة التل من أجل القضاء على معاقل فصائل المنظمات الفلسطينية (الفدائيين) والذي كان يسعى مخططهم للإستلاء على الأردن سيادة وأرضا حيث استغلت المنظمات الفلسطينية المسلحة تواجدها على أرض الأردن لتكشر عن أنيابها بمباركة من أول رئيس للمنظمة آنذاك ، الرئيس احمد أسعد الشقيري والذي أنكر على الأردن سيادتها فقال : إنه لا يوجد للأردن أي حق بالوجود ، وبأن الأردن ما هو إلا إنشاء استعماري ليس له أساس تاربخي ، وما كان من جلالة الملك حسين إلا الرغبة الجامحة بتوجيه ضربة قاسية لتلك الفصائل الفدائيية والتي عاثت بالأرض فسادا وفعلا قام التل والمجالي بتشكيل حركة التل التي أبلت بلاءا حسنا ونجحت بضرب كل معاقل الفدائيين وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية على أرض عمان وما حولها من المدن وقراها حتى آخر معقل لهم بقرى إربد وجرش .ونادى الشعب هاتفا بعد انتهاء أحداث أيلول الأسود ب (فوق التل تحت التل احنا رجالك وصفي التل )-
البيدر والسنديان
هنا وصفي كنا نحن اصحاب وطن ، وكانوا هم العابرون ، هنا وصفي كنا نحن الماكثون ، وكانوا هم المارون ، هنا وصفي كنا نرتع ونحيا على بيادر سنابلنا نأكل منها حد الشبع ، ونطعم منها الجار وجار الجار
والجار الصاحب ، والجار بالجنب ، وندّخر منها لسنين عجاف طِوال، هنا وصفي كنا نقص حكايات الأردن وتاريخة التليد ، هنا وصفي كنا نستمع إلى الأناشيد والأغاني الوطنية التي كنت تُخرِجُها وبمعيتك ؛ عدنان أبو عودة من داخل استديوهات الإذاعة و التليفزيون الأردني ،هنا وصفي كنا نردد معا ؛ أنا الأردن أنا والمجد والتاريخ والعلياء والظفر ، هنا وصفي كنا نجالس السنديان لتستظل بظلنا ونستظل بظلها ، هنا وصفي كان منبت الشّيّح والقصوم ، وهنا كانت تتعانق أشجار الصنوبر والسنديان مع المآذن في كل فجر وقطرات الندى تتلاشى خجلا من ورع و خشوع ضوء الشمس المعانقة لحبات ثرى الأردن .
.
تبيض السجون
وصفي يحمله السجناء على أكتافهم ، يستقبلوه بالأهازيج والفرح الغامر ، والصرخات والهتافات
حيث قام وصفي التل بزيارة سجن المحطة عام1965
وبكل جراءة لم يسبقه بها احد، ولم يأتي بها بعده احد حيث قام بإصدار عفو عام عن كل السجناء ، وذلك احتفالا بمناسبة تعين الأمير حسن وليا للعهد أنذاك حيث قام كل من رئيس الوزراء وصفي التل ، ورئيس مجلس النواب عاكف الفاير بزيارة سجن عمان المركزي المتعارف عليه بسجن (المحطة) ولم يكتفي بذلك قط حيث قام بحرق كل ملفات السجناء والمحكوم عليهم هذا وشمل العفو كل القضايا بما فيها السياسية وقضايا اللاجئين السياسيين في الخارج، واستثنى من العفو الجواسيس فقط ، فكانت بداية لصفحة جديدة ، وتبيضا للسجون وما أغرب اليوم عن الأمس .
ألا نامت أعين الجبناء
احيانا تفيض العيون بدمع غاليا وثمينا ، بقدر الموقف وحجم الحدث ، بكل ثقة وأنفة وعزة وبهاء مشيت يا وصفي الى القدر المحتوم ، صعدت سلم الطائرة والعنفوان يحيطك من كل جهة ، وقفا فاردا منكبيك
اللتان ضاهت جناحي الطائرة ، وكأنك صقر شامخ الرأس في المدى ، نظراتك كحد سيف في ساحة الوغى مرفوع الهامة يقبلها الندى، والهامة تقبل التاج ، تلوِّح بيمينك للأردن و لكل عشيرتك الطيبين ، وكأنك تعلم بأن رصاصة الغدر ستطولك و ستنالك شمائل الردى حين كانت آخر كلماتك ؛ ما حدا يموت ناقص عمر والأعمار بيد الله وحده ، كلمات قالها للفريق نذير رشيد مدير دائرة المخابرات العامة الأردنية قُبيّل ذهابه لحضور إجتماع رؤساء وزعماء العرب الذي أقيم بالقاهرة ، وفعلا قد نفذ حكم الجبناء حين طالته سهام الغدر برصاصات عزت رباح حيث أعلنت منظمة أيلول الأسود عن مسؤوليتها عن العملية والتي نُفِذت بنجاح بعد إنتهاء الإجتماع لرؤساء وزعماء العرب بدقائق أمام ردهة شيراتون القاهرة .
ألا نامت أعين الجبناء !!!!
يا مهدبات الهدب غنن على وصفي
أي كلمات هذه التي ليست كالكمات ، وأي بكاء هذا الذي تحول لغناء لوداع الشهيد البطل والذي اجمعت الأمة على محبتها له ، هي كلمات مغناة للشاعر الأردني حبيب الزيودي ، والتي كتبها بعد إغتيال شهيد الوطن والأمة جمعاء وصفي التل ،كلمات ضربت على مسامعنا حتى طربنا ، فطَرِب من وجع حتى أطربت فينا كل وجع كلمات طالما تَوَجّدَ بها الأردنيون طويلا ، وتغنى بها القاصي والداني منهم ، ولطالما غناها جيل بعد جيل
على أسطورة الزمان ، وعشقهم الباقي وصفي التل .
رفن رفوف الحجل رفن ورا رف
و خيل أصايل لفت صفن ورا صف
أقول ي صويحبي يكفي عتب يكفي
و يا مهدبات الهدب غنن على وصفي
موطن المجد
كان وصفي و كنا الجندي والسلاح ، والفلاح والمعول والمعلم القرطاس والقلم ، والعامل والمصنع ، والراعي
و الغنم ، و الغور والنجدِ ، والبيداء والخيل وسجال ساحتها ، والكرم والكرام ، ودلة قهوة وفنجان ، وبيت الشَّعر والضيف والسيف ، وقصيدة شِعرٍ ، والعقال والنوماس ، والنخوة والشهامة، والخبز والقمح والتنور والصاج ، ونهر الأردن والكرامة عنوان ،هنا وصفي كنا كلنا رفاق .
ومن هنا وصفي لم تعد ذكرى استشهادك مجرد ذكرى
إنما هي متنفس لنا من ضيق الصدر وحشرجات البؤس
هي ذكرى نتنفس من خلالها الحرية والصعداء ، ومتنفس لمن لا متنفس له ، لنردد اغتيتك التي تحب ( موطن المجد ) .