بقلم العميد زهدي جانبك
آن الأوان ان نقول (كان)… كان رجلا… قائدا فذا… صاحب رؤية… ورائدا من الرواد.
عملت بامرته وهو مدير لشرطة العاصمة… فكان خير القائد والوالد… وكان حربا على الفساد والمفسدين، وعدوا للمجرمين… وناصرا للمظلومين…
قاد المرحوم ثورة لتطوير عمل مديرية الامن العام… وليس شكلها فقط…
عام 1989 أعطانا درسا في الرجولة، وبرفقته ثلة من زملائه، وكان وقتها برتبة لواء… وفي تلك السنة تم تعيين الباشا فاضل علي فهيد مديرا للامن العام وكان اقل اقدمية من جميع مساعدي مدير الأمن العام ومنهم نصوح باشا… فتقدموا جميعا باستقالة واحدة… احتراما لأنفسهم ولرتبهم.
وما لبث ان اصبح مديرا للاحوال المدنية… فاحدث فيها نقلة نوعية في إجراءات العمل وبما يخدم المواطن… فأصبحنا نحصل على جواز السفر بنفس اليوم… والأهم اننا اليوم يحمل كل منا في جيبه أثرا تركه له الباشا لحمايتنا وحماية املاكنا… الرقم الوطني… فهو صاحب ومنفذ الفكرة.
عاد مديرا للامن العام سنة 1996… وكان شعلة من النشاط… لا يكل ولا يمل… أتى وهو يحمل افكار التطوير من اللحظة الاولى… فكانت الترخيص محط انظاره فأصبحت الرخص تصدر بأقل من ساعة… استحدث التنفيذ القضائي… وإدارة البحث الجنائي…والمعهد المروري الأردني…وغيرها الكثير الكثير مما يتعلق بتحديث العمليات الشرطية لخدمة المواطن…
اقتربت منه إلى درجة كشف روح الفكاهة عنده التي تحجبها ملامحه الجدية… والشفقة والرحمة التي تحجبها انضباطيته واحترامه للقانون..
وكان اذا بدأ يوم العمل لا نعلم متى ينتهي…ويستمر العمل إلى ساعات متأخرة من الليل… وكان لديه مكتب صغير ملحق بمكتبه الرئيسي… هناك كان يجلس الساعات الطوال قارئا لكل شيء… ومخططا لما يجب أن نكون عليه…. ومن الطريف ان احد مدراء مكتبه كان كثيرا ما يلجأ لي لاراجع الباشا باي معاملة في الأوقات المتأخرة ليلا حتى اسأله ان كان ينوي الخروج إلى الميدان ام انه سيبيت في المكتب ليتمكن مرافقه، وسكرتيره، ومدير مكتبه من الاستراحة…
لا يقبل واسطة الا لرفع ظلم… ومن نوادره ان جلالة الملك الحسين رحمه الله طلب منه إعادة ضابط إلى الخدمة في الأمن العام، ولم يوافق على إعادته لسوء سلوكه… وتكرر طلب الملك ثلاث مرات فذهب لمقابلة جلالته حتى يعفيه من هذا الطلب.
كان صلبا في الحق… وكان حربا على الفساد… وكان مدرسة إدارية بكل ما في الكلمة ، وتعلمت منه الكثير…
وتشرفت بأن كنت رفيقه في آخر ساعات له في الأمن العام حيث تعلمت منه آخر دروس القيادة…
شهر شباط من عام 2000… جاءه اتصال من وزير الداخلية معالي نايف القاضي طلب منه إحالة جميع المساعدين إلى التقاعد… اتصل بي هاتفيا وامرني بتحضير كتاب إلى وزير الداخلية يتضمن توصيته باحالة المساعدين الخمسة إلى التقاعد، وتحضير كتاب من وزير الداخلية إلى رئيس الوزراء يتضمن تنسيب الوزير بالموافقة (كنا نقوم بإعداد هذه الكتب بمكتبي للمحافظة على سريتها، وكان الوزير قد زودني بالورق الخاصى بمكتبه لهذه الغاية)…فقمت بانجازها ومراجعته… ف أمرني بأن اكتب له استقالته من الخدمة وتجهيز كتاب من الوزير إلى الرئيس بهذا المضمون… وان أعود لمقابلته الساعة السادسة مساء…. حضرت إلى مكتبه ومعي كل ما أمرني بتجهيزه… فقام بتوقيع جميع المخاطبات… ثم رفع الهاتف وطلب وزير الداخلية على الخط المباشر وقال له: معاليك انا رفعت لك التوصية باحالتهم إلى التقاعد… لكنني ارجوك ان لا ترفع كتابهم إلى الرئاسة الا بعد الموافقة على استقالتي… الصمت الذي خيم على المكتب اتاح اي سماع رد الوزير: يا ابو عصام هذا ليس مطلوب منك، جلالة الملك يريدك في مكانك… ولكن الباشا نصوح أصر على طلبه وابلغ الوزير انه سيرسلني إلى مكتبه ومعي كافة المخاطبات المتعلقة بالموضوع… وكان علي ان اكون بمكتب الوزير الساعة الثامنة مساء… قلت له، يا باشا سبق لك وان اخذت موقفا رجوليا عام 1989 وخسرناك… فأرجو ان لا نخسرك مرة ثانية، وانت لست بحاجة لإظهار موقفك بهذه الطريقة… تفاجأ بتدخلي ولكنه وبكل تواضع اجابني: يا زهدي ، اذا كان الملك يريد من هم بامرتي ان يتنحوا… فهذه إشارة لي… والأفضل ان اتنحى معهم لفتح المجال لكم… خذ الكتب إلى معالي الوزير ولا تتكلم…. ذهبت إلى الوزير، وخالفت امر المدير ورجوت الوزير بأن لا يقبل رجاء نصوح باشا ، وأن لا يوافق على استقالته…. وعدت إلى مكتب الباشا فامرني بطباعة رسالة موجهة إلى ضباط وأفراد الأمن العام يودعهم بها… ففعلت ووقعها… وحوالي الساعة العاشرة تم تعميمها بعد صدور قرار مجلس الوزراء.
اليوم فقد الأردن قامة امنية شامخة… فقد الأردن ابنا محبا مخلصا نذر حياته لخدمة الوطن والمواطن… رحم الله الباشا نصوح محي الدين واسكنه فسيح جناته…. واعزي نفسي و ابناءه واهله وكل منتسبي الأمن العام وكل الوطن برحيل الرجل النزيه، الشريف، النظيف، العفيف،… ان القلب ليحزن، وأن العين لتدمع وانا على فراقك يا أبا عصام لمحزونون:
ان لله ما اعطى وله ما أخذ وكل شي عنده بأجل مسمى فلتصبروا وتحتسبوا. عظم الله اجركم ورحم ميتكم واحسن عزاءكم وغفر لميتكم واسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. انا لله وانا اليه راجعون.
هذه مصيبة الموت ولا اقول فيها الا: انا لله وانا اليه راجعون.