ذكريات و عظات/ الحلقة الأولى

14 أبريل 2021
ذكريات و عظات/ الحلقة الأولى

محمد داودية

(أ) سيكون صعبا عليّ وعليكم ان انتقل معكم من الذكريات العزيزة واحداث الماضي السحيق الذي يزيد عمره على ستين عاما، الى احداث الحاضر بما تحمله من صمود وثبات واختراقات وتوترات وخضّات و”لايذات”، وقد قانا الله الواحد القهّار نارَها و شرّها، فجنبنا فتنة و شرّا مستطيرا، بهمة ويقظة ومهنية ونبل ابنائنا نشامى المخابرات والأمن العام. بالقيادات المحترمة المحترفة الخلوقة: يوسف باشا الحنيطي. احمد باشا حسني. حسين باشا الحواتمة.

تلك الفتنة المرعبة التي اوشكت ان تضرب امننا واستقرارنا، اغلى ما نعتز وننعم ونهنأ به، و هو فضل من الله ونعمة دائمة لا تضاهى على شعبنا الراشد الحبيب.

مرت معي حالتان تتصلان بتولي الوزارة، قلّ وندُر -ولا اقول استحالة- ان تمر مع غيري.

الأولى اعتذاري عن دخول الوزارة !

والثانية ارتياحي بسبب الخروج من الوزارة !

تم تعييني سفيرا في المملكة المغربية العظيمة في 13 آب 1998. والعمل في المغرب حصة المحظوظين. لقد خرجت بخلاصة هي ان المغرب اجمل ما خلق الله، بعد بلادي الأردن طبعا ولو سألت أبنائي اين تحبون ان تقضوا إجازة سنوية لقالوا فورا وبالاجماع وانا اولهم: المغرب المغرب المغرب.

بلاد كل ما فيها رفيق وصديق وعريق.

الملك المثقف المحنك الداهية الحسن الثاني طيب الله ثراه. الملك الإنسان ابو الفقراء والديمقراطية حفيد محمد الخامس، الملك محمد السادس الذي منحني ارفع الاوسمة المغربية “الوسام العلوي من درجة الحمالة الكبرى”. الطاهر الشريف الذي كان محكوما بالإعدام فكلّفه الملك الحسن الثاني برئاسة الوزراء (الوزير الأول) المحامي عبد الرحمن اليوسفي الذي كان يناديني صديقي السفير الأردني. السفير والفقيه ادريس الضحاك رئيس المجلس الأعلى للقضاء. وزير الخارجية العريق محمد بن عيسى مؤسس مهرجان اصيله. رئيس التشريفات الملكية الدكتور عبد الحق المريني مؤرخ المملكة حاليا. رئيس حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المناضل المحامي محمد اليازغي الذي انفجر بين يديه طرد ملغوم سنة 1973 كاد يؤدي بحياته. الدكتور عبد الهادي التازي مؤرخ المملكة الاسبق. وزير الثقافة الشاعر محمد الأشعري. الشاعر العذب حسن نجمي رئيس اتحاد كتاب المغرب السابق. الناس المغاربة احلى ملقى واكرم من على الارض. مدونة 2004 اهم (ظهير) قانون ينصف النساء ويحميهن منذ فجر الاسلام. الدروس الحسنية الرمضانية التي كنا نحضر كل يوم فيها ابرز الاطروحات حول جلال وكمال الإسلام العظيم دين الرحمة والعدل. الأحزاب الدينية الراشدة التي التزمت السياق الديمقراطي وهاهي تقود المسيرة في ظلال العرش العلوي. الأحزاب المدنية الحيوية العريقة التي كافحت منذ الاستقلال الى اليوم حيث الحكومات البرلمانية الحقة. الصحافة ذات السقوف الخارقة التي لا تحدها الا الدستور ومصلحة الوطن والعفة والرفعة في القول. السفير السعودي الشاعر الكبير عبد العزيز خوجه. الايسيسكو منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة ومديرها (الأسبق) العريق عبد العزيز التويجري. الجالية الأردنية: رياض العابدي، زهير القضاة. نبيل النجار. الطعام الاشهى في العالم: الكسكسي، الحريرة، الزعلوك، الرفيسة، الطاجن، البسطيلا، الشباكية …، البحر الابيض المتوسط وهو يلتقي بالمحيط الاطلسي وبينهما برزخ لا يبغيان. المسرح. الاغنية. ناس الغيوان. ساحة الفنا في مراكش، مطاعم علي الفلاح- الشي علي. الشلوح والأمازيغ. غابات الأرغان. الجبال. السهول. الصحراء.

بعد اقل من سته شهور، في 7 شباط سنة 1999، انخسفت شمس الأردن وانكسف بدرها برحيل الملك الحسين طيب الله ثراه.

تولى القيادة المُلكُ عبدُ الله الثاني ابن الحسين فكلف الملكُ عبد الله، دولةَ عبد الرؤوف الروابدة بتشكيل اول حكومة في عهده.

اتصل بي هاتفيا صديقي الى اليوم وغدا، الجنرال سميح البطيخي مدير المخابرات العامة آنذاك، يبلغني تحيات دولة الرئيس ابو عصام، الذي قال انه انشغل مع سيدنا في امر عاجل.

قال: اخي ابو عمر، دولة الرئيس اختارك وزيرا في فريقه، احزم حقائبك بأسرع ما تستطيع.

قلت: مبروك لأبي عصام، والله انه من خيرة الخيارات واكفأ القيادات وأرجل الرجاجيل.

واضفت: اخي ابو الهيثم انا جاهز. لكن لي ملاحظة احب ان تسمعها.

قال: انني اسمعك.

قلت: ليس لي بيت في عمان. ولا حتى فرشة او وسادة او حِرام. فقد سلّمت منزل العكور المستأجَر في ضاحية الرابية ووزعت الاثاث كله على الأقارب والاصدقاء: المكتبة التي اهديتها الى صديقي الدكتور محمد عدنان البخيت رئيس جامعة ال البيت. التلفزيون. الثلاجة. الغسالة. الفرن الكنبايات. الأسِرّة. “الوهِد”.

واضفت: اذا رجعت الى عمان فسأسكن مع اسرتي في شقة مفروشة لن يكون راتبي كافيا لكرائها.

قال بنبرة آسفة: أول مرة يمر علي ان اردنيا يرفض الوزارة. معك كل الحق، الأفضل لك ان تظل في مكانك.

سألته: اخي ابو هيثم، ما هي الوزارة المعروضة علي؟!

قال: وزارة الزراعة. وأضاف ان دولة الرئيس يريد لها وزيرا سياسيا لا تكنوقراطيا.

كان ذلك في أواخر شباط 1999.

بعد 21 عاما اختارني دولة الرئيس الدكتور بشر هاني الخصاونة وزيرا للزراعة، على نفس القاعدة الذهبية السديدة: الوزارة موقع سياسي لا تكنوقراطيا.

توليت وزارة الزراعة فإذا بها في حجم قارة. واذا بها متشعبة ممتدة متفرعة تتصل بكل شأن من شؤون المواطن والوطن.

كان واجبا عليّ ان احيط بما انيط بي. ولأنني جاد كل الجدية ومنظم الى اعلى درجات التنظيم ولانني اقبض كل ما اتكلف به واتولاه كأنه لي ولأن الظرف شاق وخانق، فقد كنت لا أنام تقريبا.

اوراق اتصالات زيارات اجتماعات دراسات استقبالات جلسات الثقة جلسات الموازنة لجان النواب. لجان الأعيان. هموم المزارعين واوجاعهم، واجب حماية الإنتاج المحلي ضراوة مواجهة الجشع وادواته وقطاريزه السماسرة وعلق الإعلام.

كنت لا أنام الا قليلا. وكنت على يقين ان طاقتي ستمكنني من الاستمرار بضعة اشهر على هذا المنوال الذي لا احيد عنه قبل ان تدهمني الجلطة.

كنت على يقين انني ساخرج في التعديل فانا من الذين يبصرون. وكثيرا ما المحت الى جلسائي ان الكراسي متحركة. وأن الدخول والخروج امر طبيعي.

عندما ابلغني دولة الرئيس ونحن في مكتبه بالتعديل، لم اسأله لماذا ولم يقل لي السبب.

لكنني سأظل احمل له المحبة. وساظل انصفه وادعمه ما استطعت، لقناعتي التي عبرت وسأظل اعبر عنها، انه نزيه قوي أمين مثقف بلا اجندات الا اجندة الوطن.

عندما كنت اسمع اسم الرئيس المكلف الجديد، كنت ادخل في آلام واحزان وطنية سياسية فأضع يدي على قلبي خوفا على وطني. او يتقافز قلبي فرحا وطربا احساسا بالطمأنينة والارتياح للقادم الجديد.

وقد تقافز قلبي فرحا وطربا حين كلف سيدنا، دولةَ الدكتور بشر هاني الخصاونة، الذي توقعت تكليفه بالرئاسة على الفيس بوك قبل نحو اسبوع من تكليفه. وكررت توقعي بتكليفه مع الإعلامي اللامع عامر الرجوب على فضائية المملكة.

واظن ان دعم المثقفين والصحافيين والكتاب والسياسيين للرئيس وفريقه، هو اقل الواجبات في هذا الظرف البالغ القسوة والحدة.

وارى ان علينا واجبا وطنيا هو توفير بيئة عمل صحية للوزراء بعيدة عن الترصد والتصيد والتشكيك والشكوك غير المعتمدة على اساس.

فالرئيس والوزراء اشد الناس حرصا على النجاح. لأنه نجاح يسجل لهم ويبعث الغبطة في نفوسهم.

مرّ عليُ هملٌ من مختلف الطبقات والمواقع في الحياة ومؤخرا اثناء خدمتي في وزارة الزراعة. وتعرضت لاساءات قبيحة مستني شخصيا من همل، أوشكت ان اهبط واسقط فأقاضيهم.

ارسلت الى المحامي الدكتور إبراهيم الطهراوي، الكتابة الركيكة القبيحة التي اساءت لي بافراط.

جاءني الى الوزارة وقال لي: اخي (معالي) ابو عمر، هذه المادة تدين كاتبها الغبي بكل تأكيد.

قلت: تمام لقد لاحظت ذلك وهي كتابة ينطبق عليها “امساك الثور من قرنيه”.

قال ضاحكا: اي ثور واي قرنين يا معاليك.

واضاف: بعد اذنك، لي ملاحظة.

قلت: هاتِ ما عندك يا فصيح.

قال: ألا ترى أنه أقل من ان يكون خصما لك ؟!

و كأنّ مطرقةً هوت على رأسي فايقظتني.

اجبته فورا: ما انبلك. هذا هو المحامي المحترم النبيل.

لقد اوشك الغضب ان يضعني دون ما انا عليه، وان يضعه فوق ما هو عليه.

قذفت اوراق “القضية” الى سلة الزبالة -ولا اقول سلة المهملات- قائلا: شكرا دكتور إبراهيم. نعم لن اخاصم “صغيرا”.

*******

(ب)

كان ذلك في زمن بعيد. قبل أن تدرج العائلات على ارسال “طرحة” العجين الى الفرن. وقبل أن يصبح الخبز سلعة تباع في الأفران والبقالات.

قبل موعد إفطار رمضان بساعة تقريبا، ترفع امي كُمّيها وتزمّ تنورتّها وتجلس القرفصاء، وهي تطلب مني ان اساعدها فأحمل لها “لقن” العجين الخامر وان اباشر في إيقاد القش تحت الصاج.

كانت عليّ مهمتان شبه يوميتين.

الأولى منهما ممتعة وهي جمع القشُ وبقايا الواح الخشب “الطَّبَش” من الحارة والبريّة التي يقع بيتنا على اطرافها.

والثانية ان “أوِزّ” تحت الصاج حتى تمسك النارُ القشَّ والحطب. بما يترتب على ذلك من تشبع بالدخان لم تكن تطرده الا رائحة شراك القمح الذي “تشمره” ام محمد. تلك الرائحة التي لا تبارح.

كانت المهمة الأولى ممتعة لأنها كانت تتيح لي ان أشاهد خيال أو زول الصبية التي اهواها، وهي تقف خلف نافذة بيتها، عن بعد يزيد على قُدرة زرقاء اليمامة على تمييز شخوصه.

تقع حارة المعانية غرب سكة حديد المفرق التي كان مديرها جميل الديخ ابو وليد. ويقع بيتنا غرب الحارة ويتكون من غرفة ومطبخ ودورة مياه. بناه جدي لأمي مزعل مشري الخوالدة ابو ابراهيم من الطين والقصل والقصيب والخشب يحملها جسر من الحديد يسميه المعانية “الدامر”.

تكونت الحارة من بيوت معانية وشمالات ومُهجَّرين فلسطينيين ومغاربة وليبيين وبدو. بيوت يسكنها رجال اشداء طيبون ونساء جميلات حانيات.

اذكر منها بيوت: عزيز سقا الله المعاني أبو علي. وأبو هاجس الرواد. وعلي التميمي أبو صديق العمر عبدالمهدي. وفهّاد الخريشا. وذعار الجمعة. وخلف الخصاونة ابو محمد. وابو هايل الدخيل. وخلف الناطور المخزومي. وسبع وخالد جدوع. وعلي ابو ذوابة. وابو عبدالله ومحمد الشريف. وابو عقلة وابراهيم باشا المغايرة. وخلف وعطالله غاصب. ومفلح الشويطر. وحسين ورّاد. ومحمود كريّم الخصاونة. وابو جمعة جدوع. وابو شحاده الخليلي. وابو زكريا الدويك. والحج اعمر الرواد. وعوفان الخطيب. وفرحان ابو درويش. وهويمل كريشان. وعبد الله اسماعيل المعاني. وسليمان فياض. وسلمان فياض. وحسين العقايلة (صاحب اول مطحنة في المفرق). واحمد حربا (صاحب أول سيارة في المفرق).

لم نكن نعرف الكنافة ولا القطايف، ولم يكن رمضان مرتبطا بها. كانت الحلوى، عندما يكون ذلك ممكنا، هريسة العم “أبو جمال”.

كانت كل بيوت الحارة تفطر على نفس الأطباق، كل يوم طيلة أيام رمضان، في تعاونية محبة تضامنية فريدة.

والمهم، لم يكن ممكنا معرفة اي بيت من بيوت الحارة لم يطبخ ولم يوزع، بسبب ضعف الحال !

كانت كل ربة بيت تطبخ كمية كبيرة من الطعام تحتفظ بجزء منها لعائلتها، ويقوم الأبناء والبنات بتوزيع “طبق الحارة” بيتا بيتا، زنقة زنقة، قبل موعد اطلاق مدفع الإفطار المنصوب بالقرب من تلة السهاونة مغاريب المفرق.

كان يتجمع على “طبلية” الإفطار عدد كبير من الأطباق الصغيرة: ملفوف. شوربة عدس. مجدرة. رز حامض، رز بشعيرية، مذبلة، مجللة بالزيت أو بالسمن البلدي، عجّة، مفركة بيض وبطاطا، مقالي…الخ.

كانت كل الأطباق شهية. (ما يزال يستهويني منها اطباق المجللة والمذبلة والملفوف) !

كانت قلاية البندورة تتكون من بندورة وبصل وزيت زيتون وقرن فلفل حار. وكان اسمها “مذبلة”.

ولم تدخل عليها اللحمة الا في الربع الأخير من القرن العشرين.

كانت اللحوم نادرة جدا وموسمية.

وكنا نسمع بالسمك، إلى أن دخل السمك العماني المقطوع الرأس إلى المفرق أواخر الستينات.

لقد ظل رمضان طيلة أعوام وأعوام وأعوام، هو رمضان المُنتظَر الجميل البهيج، بالقطايف او بدونها. بالمذبلة أو بالقلاية.

والحلو ان رمضان يظل هو الحلو.

** غدا الخميس الحلقة الثانية.