بيع الوهم ومتخبطو الداخل الإسلامي، تهافت منكري حقيقة إجماع علماء المسلمين …

10 سبتمبر 2022
بيع الوهم ومتخبطو الداخل الإسلامي، تهافت منكري حقيقة إجماع علماء المسلمين …

د. مصطفى التل

عجز المزاولة العلمية والمطاولة المعرفية لإظهار الحقيقة بصفائها العذب , الباب الأكبر لولوج الشبهة أبواب الحقيقة عند العاجز , بتوهمه هذا , يعتقد أنه حاز الحقيقة من جميع أطرافها , وكنز اللؤلؤ والمرجان في صندوق شبهته لتكون هي الحقيقة الواحدة المطلقة .

فكيف ان كانت الشبهة نفسها تُجتر من أوراق صفراء طواها الزمن , كاجترار الأنعام لطعامها بعد تمتعها بأطايب المرعى , ولكنها تأبى إلا الاجترار لما تم هضمه ..!!

من هذه الشُبهة المقذوفة بين طرفي المنازلة المنكَفىء , بين اجماع علماء المسلمين كحقيقة تاريخية وبين مجتري شُبه المستشرق جولد تسيهر وشالخت وبعض تهافت أقلية من السالفين ممن لم يُكتب لهم النجاح في شبهتهم .

الطامة الكبرى أن هؤلاء المشككين المعترضين الطاعنين الذين يؤرقهم ذكر الألفاظ والمفاهيم والنصوص المرتبطة بمسألة الاجماع . يمنعهم توهمهم وتخبّطهم مع انخراطهم بالمفهوم العام لشخصنة هذه المفاهيم والمصطلحات على عقولهم الشخصية التي وضعوها حاكماً أعلى على حقائق هي اكبر من أن تحيط بها عقل فرد واحد بدون ضوابط او كوابح عقلية يضعها على عقله لترشده الى مجال انطلاقه لا إلى مجال هلاكه وتقوقعه خلف ستار تجميد العقل .

لن نخوض بـــ(الإجماع) كمقدمات ومفهوم عام واصله الشرعي وادلته من الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة وعمل الصحابة أنفسهم رضي الله عنهم وأرضاهم , لأنه أشهر من أن يتم التوضيح , ومن المعضلات شرح المُسلمات .

* ما هو مصدر هذا التوهم في عقولهم..؟!

حقيقة هؤلاء يخلطون بين الاجماع عند علماء المسلمين المعتبرين , وبين الرأي العام الاسلامي , اذ أن الاجماع المقصود هو اجماع علماء المسلمين في عصر من العصور , ويكون هؤلاء العلماء من المعتبرين علماً ومشهورين به , ولهم شهادة عامة بذلك .وليس المقصود به اجماع كل أمة الاسلام , كرأي عام للأمة .

فمثيري هذه الشبهة لا يفرقون بين الرأي العام وبين علماء مخصوصين من الامة , وهنا مثار الخلط عندهم , وهم في وهم كبير لن يستطيعوا ازالة هذا الوهم والتوّهم إلا بالفصل بين ( علماء مخصوصين ) وبين ( رأي عام للأمة الاسلامية ) .

ومصدر الخلط الثاني هو تخبّطهم بين الاصول المتفق عليها شرعاً وبين الفروع التي يقع فيها اختلاف بين المذاهب الفقهية , فيتوهمون أن الخلاف في الفروع وتنوعه , هو مانع من موانع الاجماع عند العلماء , وهذا خلط لم يسبقهم اليه أحد من سلف ولن يأتي في خلف .

اذ أن الاصول العامة متفق عليها لا لبس فيها , فمثلاً لم ينازع أي مذهب فقهي في وجوب الصلوات الخمسة , ولم ينازع أي مذهب فقهي في وجوب الجهاد , ولم ينازع أي مذهب فقهي في وجوب الزكاة .

ولكن اختلفت المذاهب في الفروع , فمثلاُ اختلفوا في وجوب صلاة الجماعة لمن يريد ان يصلي منفرداُ في بيته وهو قريب من المسجد , واختلفوا على سبيل المثال لا الحصر في وجوب الزكاة في حلي المرأة بحكم ان الحلي مال يكون قابل للنماء أم هو مجرد حلي للمرأة غير موضوع للتجارة , ولم يختلفوا على وجوبية الصلاة أو وجوبية الزكاة .

هذه النقطة تحديداً جرى الخلط فيها كثيرا عند العامي وليس العالِم او من له لمسة من علم , أو اقل اطلاع على علم .

حاول الكثيرون في سالف الأزمان الرمي بهذا الخلط , والدخول من خلاله الى عدم امكانية الاجماع من باب ان المذاهب الفقهية مختلفة , فتم الرد عليهم من اسلافنا من ارباب المذاهب الفقهية نفسها رحمهم الله تعالى , وعاد بعض معاصري الداخل الاسلامي يشيعون هذا المدخل لعلهم يجدون للأضواء عليهم تسليطا ً .

الخلط الثالث لديهم توهمهم من خلال العقيدة نفسها , فتراهم يحتجون بالفرق الاسلامية بعد احتجاجهم بالمذاهب الفقهية , فيخلطون بين الشيعي كعقيدة وبين السني , بين الدرزي وبين المعتزلي , بين الأشعري وبين الباطني , جهلاً منهم في
التفريق بين الفرق الاسلامية واختلافها العقائدي لا المذهبي الفقهي.

وعليه فإن احتجاجهم هذا كمانع من موانع الاجماع في عصر من العصور , هو احتجاج ممجوج من سالف الدعوة الاسلامية , إذ ان الاجماع المقصود هو اجماع فقهي لا اجماع فرق , فهذا الخلط بين ( الفقه ) و ( الفرق ) , هو خلط ساقط ظرفاً ومكاناً وعلماَ .

* هل الاجماع مستحيل عقلاً ..؟!!

من مداخلهم نتيجة خلطهم كما تقدم بين اجماع علماء معتبرين وبين الرأي العام الاسلامي والخلط بين الفقهي والفرق , حكموا انه يستحيل الاجماع عقلاً , فكيف يكون هناك اجماع والابن يختلف مع ابيه بمسألة , لا بل الزوجة تختلف مع زوجها , وكيف يكون هناك اجماع ومجلس الادارة الواحدة يختلفون ..؟!!.

هذا الخلط الناتج عن عدم الدقة في الصورة , نتيجة التوهم العقلي القاصر الشخصي , مرده أن هؤلاء لا يألون على شيء إلا الطعن فقط , ولا شيء غير الطعن , فلم يوسعوا تصور المسألة , ولم يحيطوها فكراً وعقلاً .

بل ان العقل نفسه يقرر انه يستحيل ان يخلو عصر من العصور من الاجماع , وان الاجماع ضرورة عقلية قبل ان تكون ضرورة شرعية .

وهذا يلزمهم من جهة انكارهم والقاعدة تقول ( من ادعى نفي حكم وجب عليه الدليل ) , فنفيهم لحكم وقوع الاجماع عقلا , وجب عليهم أن يأتوا بدليل , وهذا ما لم نلمسه منهم , “قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ”
بل ان العقل يجزم أنهم لا يجمعون على خطأ , اذ يستحيل أن يجمعوا على خطأ ولا يتنبه له واحدا منهم ..!! وان عارض هذا الواحد منهم لخطأ رآه في الاجماع , خرج الاجماع عن كونه اجماع , وهنا الحكم العقلي الجازم باستحالة وقوع الاجماع على خطأ .

• ما هي ضوابط الاجماع المعتبرة شرعا ..؟!

ان الاجماع كمصدر ثالث من مصادر التشريع الاسلامي , لم يُترك على عواهنه , ولم يُترك العوبة بيد كل من يريد ادعاء الاجماع في عصر من العصور , ولم يترك ليكون باب ابتداع وليس اتباع , بل وضع الشارع له ضوابط دقيقة , وصارمة , حتى يكون الاجماع معتبر شرعاً , ويكون مصدر ثالث للتشريع الاسلامي .

اولى هذه الضوابط , يجب أن يكون الاجماع مستمداً من المصدرين الأولين للتشريع الاسلامي , فلا يعتد بأي اجماع ليس له سند في المصدرين الأولين للتشريع الاسلامي , فلا يمكن انتاج حكماً من باب الاجماع يخالف المصدرين الأولين ( الكتاب والسنة ) , فعلى سبيل المثال , لا يمكن الاجماع على مخالفة الحدود الاسلامية في ( القانون الجزائي الاسلامي ) , ولا يمكن الاجماع على تعطيل هذه الحدود في أي عصر من العصور , ولا يمكن الاجماع على تعطيل الحكم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في أي عصر من العصور , فالإجماع لا يكون صحيحا إلا اذا وجد له سنداً في المصدرين الأولين للتشريع الاسلامي .

ثاني هذه الضوابط , أن يكون الاجماع في الفروع لا في الأصول العامة , فلا يجوز الاجماع على الغاء وحدانية الله تعالى , ولا يجوز الاجماع على الغاء وجوبية الصلاة , ولا يجوز الاجماع على الغاء وجوب الجهاد, ولا يجوز الاجماع على الغاء حرمة الخمر ولا حدها الشرعي , هذه كلها أمثلة على الاصول العامة , ولكن اجتمع علماء الأمة على اباحة ( التخدير في العمليات الجراحية ) , وذلك ان هذا فرع من الاصل العام الذي هو حرمة الخمر وذهاب العقل , وحجتهم في الاجماع قاعدة ( صلاح الأديان بصلاح الأبدان ) , فلا يمكن التضحية بالنفس البشرية التي هي من الضروريات الخمسة الكلية ومن الاصول العامة , نتيجة اختلاف في فرع من فروع الفقه .

الضابط الثالث , أن يقوم به العلماء المعتبرون في أي عصر من العصور , ولا يصح لغيرهم ولو ادعى علما ً , وهذا ضابط دقيق جدا , ومانع من موانع تمييع الاجتهاد .

* هل يوجد اجماع في عصرنا الحاضر ….؟!

كما أوضحنا في سالف القول , لا يوجد عصر من العصور خالٍ من الاجماع ولا الاجتهاد , ومنها عصرنا الذي نعيش .

بل الاجماع والاجتهاد فيه اوضح من الشمس في رابعة النهار , وممارس ومعاش وملموس بشكل يومي .

على سبيل المثال , الاجماع على حرمة ( المخدرات ) , حيث أجمعت الأمة قاطبة حتى كرأي عام انتشر , ان المخدرات محرمة وتساوي الخمرة في خبثها إلا لم تفقها , فلا يوجد عاقل عارض هذا الاجماع , أو خرقه , أو انكره .

الاجماع على أن داعش من الخوارج ووجوب قتالهم ودفع آذاهم , فالإجماع منعقد على ان داعش فئة ضالة خارجية , وهي امتداد لفرق الخوارج , وجب دفعها وقتالها , وانهاء تأثيرها , فهبت الأمة بعقلها الجمعي الكلي لدفع ضررهم , لا بل قتالهم , ولم يعارض في ذلك إلا شرذمة بسيطة جدا من العوام , لا يتم اعتبارهم شرعا أنهم علماء , هذا الاصل العام المجمع عليه في الأمة , ولكن تم الاختلاف حول هل يجوز قتالهم بالتحالف مع من هم خارج العالم الاسلامي مثل الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الأوربي , أم يجب قتالهم بدون الاستعانة بالخارجي ..؟!!

من صور الاجماع العام في عصرنا الحالي ( المجامع الفقهية ) والتي تعقد بشكل دوري باستضافة احدى الدول الاسلامية , والتي يجتمع فيها علماء الامة للتباحث حول النوازل المعاصرة المختلفة , والتي جمعت بين الاجماع والاجتهاد المعاصر , فمن امثلة الاجتهادات المعاصرة في المجامع الفقهية ( الاسواق المالية ) , ( الشركات وانواعها واسهمها ) , ( الاسستنساخ ) , ( التبرع بالاعضاء البشرية ) , ( الهندسة الجينية ) .

أما مسائل الاجماع في هذه المجامع الفقهية والتي لها قوة النص , الاجماع على وجوب امتلاك الاسلحة الحديثة ومنها الاسلحة النووية وما يتم الردع العام به , مع الاجماع على حرمة استخدامها بشكل عام , لأنها تهلك الحرث والنسل , ولكن ان تم تهديد الامة الاسلامية بها , فبقاء الامة الاسلامية أولى من زوالها شرعاً .

وغيرها الكثير , لمن يريد الاطلاع والاستزادة , دونه نشرات ومجلات هذه المجامع الفقهية المنتشرة بكل يسر وسهولة .

هذا ما تيّسر في هذه العجالة , وارجو من الله تعالى أن يلين قلوب ران عليها , وان يرفع الغمة عن الأمة ….