محمد داوديه
تتشابك دورة حياة المجتمعات في نظر العلامة عبد الرحمن بن خلدون كما جاء في كتابه الموسوم “العِبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”.
وفيه يكتب:
“الأوقاتُ الصعبةُ تصنعُ الأقوياء،
والأقوياءُ يصنعون الرخاء.
وأوقاتُ الرخاء تصنع الضعفاء،
والضعفاءُ يصنعون أوقاتا صعبة”.
ثم تصنع الأوقات الصعبة رجالاً اقوياء مرة اخرى !!
******
سيظل كل من ينام في المفرق يومين او ثلاثة يتمتع براحة بدنية ملموسة، كالتي توفرها ابرة الفاليوم او حبات المسكن. وهي راحة كالتي يحصل عليها كل من ينام في اغوار الأردن حيث اكبر واكثف كمية اكسجين في العالم.
ما يزال سرا مستغلِقا، الرابط والسبب الذي يجعل زوار واهل المدينة مشدودين اليها بعرى لا تنفصم، ويجعل أهلها في ارتباط فريد بها.
تنفرد المفرق بطقس غريب. نهارها هجير وغبار وحرارة مفرطة بحيث لا ترى أحدا يتحرك في شوارعها خلال ساعات الظهر وما قبل المساء.
كنا ننام ساعتين الى ثلاث ساعات هي القيلولة التي تمتد الى الساعة الخامسة عصرا. بعد ذلك يهب على المفرق نسيم غربي رطب خلاب فاتن. ليس له مثيل في الكرة الأرضية، يأتي من احراش عجلون وجرش فيخرج الأهالي الى الشوارع حيث تظن ان كل اهل المفرق خرجوا من بيوتهم.
ومن لطائف المفرق وخصائصها ان شبابها وعائلاتها يغادرونها او يهاجرون الى كل اصقاع الأرض لكنهم يظلون على صلة بها لا تنقطع. والسر في هذه الصلة الروحية -كما يعتقد أبناؤها- هو في مائها الذي فيه جاذبية فريدة تشد الأبناء الى صدرها مهما طالت غيبتهم.
وهذه واحدة من قصص هذا الارتباط الفريد:
اتفق أبناء المفرق المهاجرون الى اميركا على اللقاء في المدينة الأعجوبة المسماة مدينة الخطيئة لاس فيغاس، التي يبلغ دخلها مليار دولار يوميا، بعد غربة عن المفرق وانقطاع بينهم دام نحو نصف قرن. وهم: الأب أميل حداد، الشاعر سرحان النمري، الشاعر عيسى بطارسة، توفيق النمري، رياض النمري، الكابتن فراج دبابنة، فايز عوده، الياس عوابده، ابراهيم مرجي وفكتور نخو.
توافدوا من كل ولايات اميركا الى تلك المدينة الصحراوية الغارقة في الأضواء والألوان والجمال. التقوا هناك وتسامروا وتذاكروا وفرحوا فرحا لا يوصف، كما اخبرني الصديق الشاعر عيسى بطارسة، الذي استضافني في منزله وقال لي:
لا يعقل ان تأتي الى اميركا وترجع الى الأردن دون ان تزور لاس فيغاس.
هاودته وانطلقنا بسيارته الفارهة، نتبادل قيادتها لمدة 5 ساعات، الى تلك المدينة الاسطورة.
كان عيسى مُحِقا، فرادة المدينة وبشاشتها وتصابيها وترحابها لا يمكن تكرارها او استنساخها.
كان شباب المفرق في الستينات والسبعينات يندفعون كل مساء الى طريق جرش، يفرّون من الرمض والهجير والصهد الى النسمة الرطبة الفريدة.
اسراب من الشباب المتحمس الفوار، يتحدثون في كل شيء، في السياسة والجنس والشعر وتحرير فلسطين والجزائر والوحدة العربية وكوهين والسلاح النووي والمقارنة بين قوتي اميركا والإتحاد السوفياتي وحزب البعث وحركة القوميين العرب وحزب التحرير وجمال عبد الناصر وامين الحافظ وصلاح جديد.
كنا نختلس لحظات من جفاف السياسة، وننفلت من المسار اليومي الصاخب الى عوالم الفتيات الزاهية الملونة الرطبة، الى عالم الأنثى السحري البخوري الأثيري السحابي، عالم الشغف واللهفة والنشوة والخدر وزهو النجاح في اختبار القبول المبكر.
******
كنت اعمل طيلة كل العطل الصيفية في مطعم المعلم سالم الشاويش، الواقع في اقصى الجهة الشرقية من المفرق، على خط بغداد- عمان. دمشق- عمان.
كان المعلم سالم يغيب كثيرا، دلّني على قواعد العمل الرئيسية ومضى.
كل مساء كنت انقع في الماء وبايكربونات الصوديوم، نحو 3 كيلوغرامات من الحمص ابو الحبة الكبيرة عيار 12. وفي الصباح الباكر اسلق نصف الكمية وادقها واعمل منها حمصا بالطحينية وفتة حمص ومسبّحة.
واطحن نصفها الاخر لعمل الفلافل.
كان طحن حمص الفلافل يتم يدويا، على مفرمة كمفرمة اللحمة. وكان الطحنُ مرهقا شاقا يهد الحيل. ثم كنت أقوم بإضافة البهارات والملح وكمية من البقدونس لأعمل من تلك العجينة مئات حبات الفلافل الشهية.
أصبحت قادرا على تلبية طلبات الأكل، فأبدأ على الساعة العاشرة صباحا في طبخ الطبق الذي يحدده المعلم سالم ويشرف عليّ وانا اتقن تنفيذ توجيهاته، الى ان اصبح يعتمد علي اعتمادا تاما.
كنت اطبخ و أعد: فاصوليا باللحمة، باميا باللحمة، منزّلة باذنجان، عجة البيض، حمص بلحمة، مفركة بيض، شوربة خضار، كفتة بطحينية، كفتة بالبندورة وانواعا من السلطات.
وعندما اجتمعنا في مدرسة بصيرا الإعدادية عام 1970. كنا 6 معلمين نسكن في بيت مستأجر واحد: مديرنا خليل الطرشان وعبد مقبل الهلول وإبراهيم العواجي القطاطشة ومحمد القرارعة وموسى القرارعة وانا.
كنتُ طبّاخ الفريق. وكان عبد مقبل الهلول وإبراهيم العواجي القناصَين اللذين هما من امهر من عرفت من القناصين. كانا يغيبان ساعتين او ثلاثا، فيعودان بعدد من طيور الحجل والشنانير المكتنزة. فيتولى الشباب تجهيزها واتولى تحميرها وطبخها مع كمية كبيرة من البصل والفلفل الحار والبطاطا والبندورة.
وبدون ادعاء و منفخة، كانت رائحة تلك الطبخة “بتجيب التايه” !!
بقيت 9 شهور طباخ فريق المعلمين في مدرسة بصيرا الإعدادية، قبل 51 عاما، دون ان يتسمم احد منا غذائيا !! ودون ان يتم عزلي واستبدالي، مما يدلل على النجاح. ولا اظن ان اعتمادي ذاك كان بسبب انعدام البديل، فالرجال يجدون البدائل بلا انقطاع او صعوبة !!
وحين ترشحت للانتخابات النيابية عن محافظة الطفيلة عام 1993، حصلت على دعم قوي معلن، من زملاء تلك الأيام الجميلة، أسهم في نجاحي وحصولي على المرتبة الأولى.
******
كان معلمي سالم الشاويش نبيلا، كريما، طيبا، هادئا، ودودا، ماهرا وذا وجه باسم.
كنت آكل ما طاب لي في ذلك المطعم، “تبغددت”. وواظبت على تناول طبق الفطور المفضل حتى اليوم: الحمص باللحمة المقلية بالسمن البلدي.
لقد عوّضت كثيرا من الحرمان، بعِلم المعلم النبيل الطيب. وتحررت من استعباد “المذبلة” التي كانت وجبة الغداء شبه اليومية، وهي باختصار قلاية البندورة بدون لحمة !! كذلك اكلت “كفتة” بما فيه الكفاية.
******
كنت اعمل بمتعة كبيرة، نحو 20 ساعة في اليوم، من الساعة الرابعة فجرا وحتى منتصف الليل، ولم اكن أشعر بالتعب او الملل. لقد انصرفت الى عملي كليا، لم يكن يراقبني احد، ولم يكن مطلوبا مني ان اعمل طيلة تلك الساعات.
ولما لاحظ المعلم سالم انني اضع كل جهدي وعقلي وقلبي في عملي، ضاعف اجرتي التي كانت خمسة قروش في اليوم.
لقد تكررت معي حكاية مضاعفة اجرتي مرتين أخريين، بسبب انكبابي وعكوفي الكامل على العمل الذي يوكل إليّ، واتقاني التام له. فالعمل عندي أولا وعاشرا وألفا.
كانت المرة الأولى في صحيفة الأخبار عندما ضاعف فؤاد سعد النمري راتبي الشهري وكان 90 دينارا.
وكانت المرة الثانية عندما عملت براتب مقداره 150 دينارا في الشهر، مع مريود التل وطارق مصاروة، سكرتيرا لتحرير مجلة الأفق السياسية الأسبوعية التي اصدراها عام 1982 وتم اغلاقها بعد 6 شهور.
كنت اعمل في ذلك المطعم الذي يقع على خط بغداد- عمان. دمشق- عمان بمتعة لا تدانيها متعة، ابدأ من الساعة الرابعة صباحا او قبل ذلك أحيانا، الى ما بعد منتصف الليل. ولما رأيت ان العودة عند منتصف الليل الى البيت، الذي يقع خلف سكة الحديد في الجهة الغربية من المفرق، متعب وشاق، وترافقه مخاطر مهاجمة الكلاب الضالة، احضرت من البيت فرشة وغطاء خفيفا وأصبحت انام في المطعم. أُغلِقُ البابَ واجمعُ اربعَ طاولات، افرش عليها “يطقي” وانامُ اعمقَ نوم يحصل عليه انسان.
كنت سلطان زماني. اتمتع واتلذذ بالقيادة وبالادارة وبالثقة التي اولانيها المعلم سالم الشاويش، الذي كان يحضر الى المطعم في العصاري يمكث مدة 3 ساعات، اعمل له خلالها “نفسي تمباك عجمي” يكركر عليهما وهو يلعب طاولة الزهر امام المطعم مع اصدقائه. ثم ينصرف لأشغاله الأخرى، بعد أن يستلم “غلة” المطعم الوفيرة، مطمئنا إلى أن المطعم بيد امينة.
******
بعد 35 عاما، عندما كنت وزيرا للشباب في حكومة المعلم الكبير زين الرجال دولة عبد الكريم الكباريتي، الذي كان يضع هو الآخر ثقة مطلقة فيّ، ذهبت الى مدينة المفرق وقدمت احرّ التعازي لأسرة وزوجة معلمي الطيب الكريم الودود الشهم، العم سالم الشاويش.
*****
نقرأ كلاما كثيرا يتعلق بالنخبة الأردنية. بعضه يصدر عن قيادات محترمة تأخذ على “السيستم” انه خَلَّقَ نخبةً صورية شكلية هشّة، صَنَّعها في دوارق ودهاليز واقبية، فتجلى نكوصها وعجزها واختفاؤها “عند حزّها ولزّها” !!
ونقرا كلام لقلقة مبعثه “قُصِر ذيل يا ازعر” يصدر عن من هم مكشوف ومعروف انهم من “network الفساد”. والمدهش ان احد دعاة الإصلاح المتحمسين لمكافحة الفساد لفظيا، صدر بحقه قرار عزل من الوظيفة الرسمية بسبب سرقة مخصصات زملائه المسخمين !.
*****
ليست مؤثرة ولا تقلقنا، تلفيقات التنفيس وعرط الميكروفونات الاستعراضي المنتمية الى اغاني وطقاطيق المونولوجستات، التي برع فيها اسماعيل ياسين ومحمود شكوكو في مصر.
الاساسي و الجوهري و”الرك” هو على الجبهة الداخلية، حيث توجد تحديات ذات بال تتجسد في الفقر والبطالة ووباء الكورونا والفساد واستحقاقات الإصلاح الجدي العميق واشراك قوى الدولة المدنية والإصلاح الجادة والقوى الاجتماعية الاردنية الجديدة في المسؤولية. أي “في الغُنم والغُرم”.
وفي تقديري ان المناخ الوطني الأهلي والرسمي مستعد ومهيأ لتلقي شحنات الإصلاح التي تتحملها البُنى السياسية والاقتصادية والإدارية القائمة، فلا تكون اكثر مما تتحمل، فيتصدع البناء ويتضعضع، ولا تكون مظهرية شكلية “في الريش” وعلى قاعدة “دق الماء في الاناء”.
لقد وقع محللون سياسيون ومراكز ابحاث ودراسات اقليمية ودولية قصدا او حسب الرغبة والدفع والقبض، في اخطاء استراتيجية فادحة عندما اعلنوا تضاؤل اهمية بلادنا الجيوسياسية !! بسبب تقليعة “الستربتيز الإبراهيمية”.
كان ذلك المدخل”لَقْطة” وتشجيعا على ادارة الظهر للاردن، او لاستهدافه لأنه فقد قيمته ودوره ومكانته و “لم يعد يساوي همه” !!
كتب أليكس فيشمان في صحيفة يديعوت احرونوت يوم امس الأول: “أن الأردن ليس في الجيب. والسلام معه أهم لإسرائيل من “إبراهيميات الخليج”.