“إسرائيل” وخطر تحويل “المؤقت” إلى “دائم”، في غزة ولبنان

11 ثانية ago
“إسرائيل” وخطر تحويل “المؤقت” إلى “دائم”، في غزة ولبنان

كتب: عريب الرنتاوي، مدير مركز القدس للدراسات السياسية
في لبنان، كما في غزة، يبدو أنّ سيناريو العودة إلى الحرب واسعة النطاق، ليس مدرجاً على جداول أعمال “إسرائيل” والإقليم والمجتمع الدولي… فيما سيناريو “الحلّ السياسي الأشمل”، يبدو محاطاً بقيود التطرّف الإسرائيلي المدعوم أميركياً، ومحفوفاً بأثمان يتعذّر على الشعبين الفلسطيني واللبناني، قبولها أو الأخذ بمعظمها… وبين هذين السيناريوهين، ثمّة سيناريو ثالث، أشدّ خطورة وأكثر ترجيحاً: بقاء الحال على هذا المنوال.
“إسرائيل” دخلت في اليوم التالي للحرب، ليست غزة وحدها من ينتظرها “يوماً تالياً”، “إسرائيل” كذلك، وثمّة أجندة حافلة تنتظر الائتلاف الحاكم ونتنياهو شخصياً، وثمّة حسابات يتعيّن تسويتها، وثمّة انقسامات يتوجّب تجسيرها، وثمّة “ثقة مفقودة” بين الكيانات والمكوّنات، بين المواطن والدولة بمختلف مؤسساتها، يتعيّن استرجاعها، والعمل على إعادة بنائها… والأهمّ ثمّة انتخابات وشيكة، يتوجّب خوضها، فيما بشائر حملاتها بدأت تلوح في أفق السياسة الإسرائيلية، قبل أن تضع الحرب على غزة، أوزارها.
وإن كانت العودة لسيناريو الحرب الشاملة، لا تجد من يشجّعها، أو يدفع باتجاهها، فإنّ الشروط على جبهتي لبنان وفلسطين، لم تنضج بعد، ولا فرصة لتصوّر إمكانية الذهاب إلى سيناريو الحلّ النهائي الشامل، فما هو معروض على الفلسطينيين واللبنانيين، سواء بسواء، لا يتخطّى سقوف الفلسفة الإبراهيمية، ولا يجد الإسرائيليون ولا الأميركيون، مبرّراً لإخفاء نواياهم ورغباتهم، في رؤية الطرفين، وقد رفعا رايات الندم والهزيمة والاستسلام… هذا خيار انتحاري، لم يكن مطروحاً من قبل ولن يكون كذلك من بعد.

سيناريو بقاء الحال على حاله
وضع كهذا، لا ينبغي أن يدفع للاطمئنان، فالبديل عن تراجع خياري الحرب الشاملة والسلام النهائي، ليس سوى هدنات وتهدئات، أخطر ما فيها، أنها ستُبقي الحال القائم على حاله، وحتى إشعار آخر، ما يشكّل نزفاً لقوى المقاومة، وبيئاتها الحاضنة، وتآكلاً لدورها ومكانتها في أوساط شعبها، بل وقد يدفع إلى تسريع الصدام بينها وبين قوى سياسية واجتماعية متربّصة، ومدعومة من أطراف إقليمية ودولية.
في لبنان، تبدو “إسرائيل” في وضع مريح للغاية… هي ما زالت تحتفظ بمناطق احتلتها مؤخّراً إلى جانب “احتلالاتها القديمة”، وهي تستبيح الأرض والأجواء اللبنانية، وهي تقتل وتغتال وتدمّر من دون إثارة أيّ قدر من ردود الأفعال العربية والدولية… هي تخوض حرباً بلا كلفة من أيّ نوع، لم تفقد عسكرياً واحداً منذ السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر الفائت، وهيهات أن يأتي أحدٌ على نقد سلوكها الإجرامي، بل وهيهات أن تجد أحداً يتحدّى روايتها، التي تتغطى بها لمواصلة اعتداءاتها.
في سيناريو كهذا، تستطيع “إسرائيل” أن ترتفع بمنسوب عدوانها وأحزمتها النارية، تستطيع أن تبعث برسائل النار لحزب الله وأمينه العامّ، وحركة أمل ورئيسها، رئيس المجلس النيابي، كما أنها تستطيع أن تهبط بسقف عملياتها الحربية، فتكتفي بجمع البيانات وتسيير “الدرونات”… هي المتحكّمة بمنسوب التوتر وحدّة الضربات وعمقها وهي من يختار أهدافها، ولا أحد يسائلها عمّا تفعل ولماذا.
لماذا والحالة كهذه، تذهب “إسرائيل” إلى سيناريو حرب برية، قد تكون مكلفة، أو توسيع غير مسبوق، لدائرة النار، قد تستدعي ردود أفعال دولية غاضبة؟… لماذا “تقامر” وتجازف بتكبّد خسائر محتملة، طالما أنها تحصل بـ “المفرّق” على ما كانت تنوي تحصيله بـ “الجملة”؟
الأمر ذاته، يمكن أن ينطبق على غزة، فـ “إسرائيل” اليوم، تسيطر على أكثر قليلاً من نصف مساحة القطاع، وبمقدورها أن تعيد إنتاج “النموذج اللبناني” في غزة، وقد فعلت قبل أيام، ولديها يد طليقة للعمل على “إطفاء التهديد” وتبديده، وخسائرها ما زالت من النوع القابل للاحتمال، وربما يفضي بقاء الحال على هذا المنوال، إلى تبديد مفاعيل “تسونامي” الإدانات الذي اجتاح العالم على وقع “الإبادة” و”المجاعة”، وستجد في واشنطن، وبعض عواصم الغرب، من سيتطوّع لمساعدتها في اجتياز وتفكيك أطواق العزلة والنبذ، كما ستجد من يشجّعها على تفادي “محاربة العالم بأسره”.
وثمّة في حديث الوسطاء الأميركيين ما يدعو إلى القلق، إذ كيف يمكن تفسير مقترح جارد كوشنير، الذي يحمل عنوان “رفح أولاً”، إلا بهذا المنطق، أو “اللا-منطق”، الرجل يريد أن يبدأ مشوار التعافي وإعادة الإعمار من رفح، كونها خاضعة بالكامل للسيطرة الإسرائيلية، ومن رفح ستنطلق عمليات البحث عن الأنفاق والبنى العسكرية التحتية للمقاومة وتدميرها، وفي رفح سيجري العمل على بناء “نموذج” للإعمار والازدهار بعيداً عن حماس وحكمها ومسلحي القسام، لكي تتوفّر للفلسطينيين القدرة على المقارنة، بين غزة المدمّرة تحت حكم حماس، ورفح الناهضة تحت حكم “إسرائيل” وعملائها؟
ما الذي يعنيه ذلك، سوى أنّ الوضع الراهن، واقتسام السيطرة على قطاع غزة، مناصفة تقريباً، قد يستمر لأشهر وربما لسنوات مقبلة، أقلّه كما في التفكير الأميركي-الإسرائيلي…. فهل لعاقل أن يتخيّل أنّ إعمار رفح وازدهارها، هو مسألة أسابيع أو أشهر قلائل؟ أليس في خلفيّة مقترح “رفح أولاً”، ما يشي بأنّ “المؤقت” في غزة، قد يصبح دائماً، وأنّ الاتفاق المبرم على خلفيّة مبادرة ترامب، قد يُكتَفَى بمرحلته الأولى، مع بعض الزيادة والنقصان، إن لجهة الرقعة الجغرافية لإعادة الانتشار الإسرائيلي، أو لجهة الانتظام على المعابر وتسليم المساعدات والإغاثة.
فكرة “رفح أولاً”، تستبطن إبقاء القيود على غزة والمناطق المأهولة، (85 بالمئة من سكان غزة)، تحت سيطرة المقاومة، ليس بالشدّة ذاتها بالضرورة، ولا بالكيفيّة التي كانت عليها طيلة العامين الفائتين، لكن مرة أخرى، سيجري تحويل الإغاثة والمساعدات وإعادة الإعمار، إلى ورقة ابتزاز سياسية، وهذا ما يقال إسرائيلياً وأميركياً بالفم الملآن، ومن دون خجل أو مراوغة.
في غزة، كما في لبنان، لن تعدم “إسرائيل” الحجج والذرائع والمبرّرات للمضي في حربها غير المكلفة، وستجد في واشنطن آذاناً صاغية، وسيتراجع منسوب الاستنفار العربي والإقليمي والدولي، مع تراجع منسوب “القتل بالجملة” وانخفاض منسوب “التدمير السجادي” للأرض والحجر والشجر، فيما ستواجه المقاومة في كلا البلدين، موقفاً رسمياً، من الحكومة (لبنان) أو السلطة (فلسطين)، لن يتردّد في إلقاء اللائمة عليها، لأنها لم تقرّ بعد بحصرية السلاح، ولم تجنح لخيار التفاوض المباشر، ولم تسلّم بشروط الحلّ الإسرائيلي، الوحيد المطروح على الطاولة حتى إشعار آخر.
في غزة، كما في لبنان، ليست المقاومة في أحسن أوضاعها لتطالب بقلب الطاولة على رؤوس اللاعبين جميعاً، أو حتى الذهاب إلى “خيار شمشون”… لكنّ استمرار الحال على حاله، سيما في لبنان حيث الوضع امتدّ لقرابة العام، ليس خياراً بدوره، ويتعيّن أن يكون واضحاً بأنّ ثمّة حدوداً للاحتمال وضبط النفس، كما يتعيّن التفكير بأشكال من المقاومة، كفيلة برفع كلفة هذا السيناريو على العدو، إذ طالما أنه لا يدفع أكلافاً، أو أنّ أكلافه من النوع المحتمل، فليس ثمّة ما يدفعه للعودة عن هذا الخيار المريح.
بخلاف لبنان، فإنّ الوضع في غزة، ما زال متحرّكاً، وانتشار “الجيش” في شريط ضيّق من الأرض، على مبعدة أمتار من المقاومين وبين ظهراني أهل غزة، يبقي الخطر ماثلاً، والفترة الزمنية منذ وقف إطلاق النار ما زالت قصيرة جداً، وتعدّ بالأيام، ومع ذلك، دفع الاحتلال خلالها أثماناً من أرواح جنوده وضباطه، وثمّة دعوات مقدّرة، لتحويل الخط الأصفر، إلى خط تماس، إن استمر الحال على هذا المنوال، وإن أدارت حكومة نتنياهو ظهرها لمندرجات اتفاق وقف النار.
وبخلاف لبنان كذلك، فإنّ الوضع في غزة، يستدرج زخماً دبلوماسياً كثيفاً، وما زال يحظى باهتمام إدارة ترامب وشخصه، وما زالت الرغبة في إتمام تنفيذ الاتفاق عارمة، إلا عند الجانب الإسرائيلي، هذا الوضع، يوفّر للمقاومة الفلسطينية فرصة لالتقاط الأنفاس، والتفكير بالخيارات والبدائل، والتشاور مع الأصدقاء والوسطاء، لتحديد مواطئ أقدامها في المرحلة المقبلة.
أما بالنسبة للمقاومة اللبنانية، فأحسب أنّ عامل الوقت، يعمل كسيف ذي حدّين: يوفّر لها من جهة، فرصة ترميم القدرات وملء الفراغات، وإن كان من جهة ثانية، يقضم من هيبتها ويضعف من صورتها الردعية التي عُرفت بها، ودفعت أثماناً باهظة، لتظهيرها… إنه وضع صعب للغاية، على أنّ الأصعب منه، هو الذهاب إلى حرب غير محسوبة، أو القبول بسلام مُذلّ.