في معنى المعارضة .. ما أكثر المدّعين وما أندر الصادقين

13 ثانية ago
في معنى المعارضة .. ما أكثر المدّعين وما أندر الصادقين

بقلم: هشام بن ثبيت العمرو

كثُر في زماننا من يتدثّرون بثوب “المعارضة”، يرفعونه شعارًا ويجعلونه مطيّة لنفث أحقادهم، وهم في حقيقتهم أبعد ما يكونون عن شرف الموقف ونُبل الرسالة. ولقد ابتُلِيَت الأوطان – في زمن الفتن المُمَجَّجة والفضاءات المُعَوْلمة – بأقوام لا يجيدون إلا الصياح كالعُوَاء، ونفث السُّباب كالثُّغاء، لا حُجّة لديهم إلا الشتائم، ولا منطق إلا التهريج، ولا مشروع سوى التشغيب.

يتفيّأون ظلال المنفى، ينهشون أوطانهم كما تنهش الجوارح الفريسة، لا يميزون بين النظام والدولة، ولا بين الحكومة والوطن، كأنّهم قد اجترّوا حقدًا قديمًا، فانفجر فيهم قيحًا لا يُشبه إلا رَجْزَ المجانين. يخاطبون أوطانهم من وراء الحدود بلغةٍ رَعناء، تتقافز فيها الألفاظ النابية، والنعوت السوقية، كأنّهم قد تمرّغوا في وحل الكلام حتى سكروا برائحته النتنة.

هؤلاء لا يُسمّون معارضين إلا من باب التجوّز، كما يُطلق اسم البحر على مستنقع. إذ لا مشروع لديهم، ولا برنامج، ولا رؤية تُحاكي الواقع أو تبني المستقبل. يعيشون على الفُتات الإعلامي، ويقتاتون من الضجيج، يحسبون أن الصراخ يغيّر، وأن الشتم يهدم، وأن الأوطان تُبنى على الفيسبوك وتُحرَّر في التغريدات.

أما المعارض الحق، الشريف، الفَذّ، فهو ذاك الذي تُنبتُه الأرضُ التي يدافع عنها، ويصوغ وعيه نبضُ شعبه، وتُحدِّد مساره مصلحة الوطن، لا أهواء الخارج. هو الذي يُعارض ليُصلح، لا ليهدم، ويقاوم لينقذ، لا لينتقم. يُحدّثك بلغةٍ نقيّة، وإن كانت قاسية، لكنه لا يُفرّط ولا يُساوم. إذا تكلم أنصت الناس إليه، لا لأن صوته عالٍ، بل لأن منطقه راسخ، وحجّته دامغة، ومواقفه جليّة كالشمس.

المعارض الشريف لا يتوسّل بالخارج، ولا يعرض نفسه في مزادات الخيانة، ولا يجعل من وطنه سُبّة على لسانه كلّما جلس أمام كاميرا، أو كتب منشورًا. هو أشبه بجندي في معركة الكلمة، يحمل مشروعًا إصلاحيًّا متكاملًا، له في السياسة رأي، وفي الاقتصاد خطة، وفي المجتمع فهم دقيق. لا يُجادلك في الفراغ، بل يُنازلك في ميادين الفكر والعمل، ويقف بثبات على أرضٍ تعبق برائحة الوطن، لا تراب الغربة.

شتّان بين من يحمل وطنه في دمه، وبين من لفظه الوطن فصار عالة على الخارج. شتّان بين من إذا اختلف، أخلص، وإذا عارض، أبدع، وإذا وقف في وجه السلطة، فعل ذلك وقلبه مفعم بالحب لا بالثأر. وبين من لا يجيد إلا اللّغَط، قد جعل من اللفظ الرقيع وسيلته، ومن التهريج عدّته، ومن “الترند” قبلةً ومعبودًا.

المعارضة ليست تجارة، ولا وجاهة، ولا مهنة لمن لفظتهم الحياة السياسية. المعارضة مسؤولية، وكرامة، وعمل دؤوب لتقويم المسار لا لتخريب البناء.

فليخسأ المتفيهقون الذين باعوا صوتهم بثمن بخس في سوقٍ موبوء، وليبْقَ المعارض النبيل، الطاهر اليد واللسان، حامل الرسالة، وحارس الفكرة، والواقف كالطود في وجه الفساد والاستبداد دون أن يتخلّى عن وطنه ولو للحظة.

نقولها بالفم الملآن: ليس كلّ من صرخ معارضًا، وليس كل من شتم مسؤولًا. فالصوت العالي لا يصنع الحق، والشتيمة لا تصنع دولة. وإنما تصنعها الرؤية، والخطة، والحب الذي لا يخون، والصبر الذي لا يتهاوى.

هؤلاء وحدهم نُصغي إليهم. أما أولئك النابحون على أسوار الوطن، فلا حديث لهم إلا مع جدرانهم، ولا قيمة لأصواتهم إلا كضجيج الريح في صحراء لا تسمع.