بقلم: هشام بن ثبيت العمرو
وانتهت قصة غزة…
انتهت كما تنتهي كل المآسي العربية: على أنقاض البيوت، وبين ركام الأحلام، وعلى أجساد الأطفال الذين لم يعرفوا من الدنيا سوى صوت الطائرات ووهج النار. استُشهد من استُشهد، ومُسِحت عائلات بأكملها من السجل المدني، وكأنها لم تكن يوماً جزءاً من هذا الوجود. وها هي غزة، التي كانت عنواناً للصمود، تُترك وحيدة بين دمار شامل وصمت دولي مطبق، بينما يخرج قادتها الآمنون بضمانات “دبلوماسية”، تضمن لهم سلامة الممر، لا سلامة القضية.
تتردد الأسئلة الثقيلة في ضمير كل عربيٍ ما زال يحتفظ بقدرٍ من الإنسانية: ما الجدوى من حربٍ أكلت الحجر والبشر؟ ما الذي حققته “حماس” غير الخراب والدماء والدموع؟ هل كان هدف الحرب تحرير الأرض، أم تثبيت سلطة؟ وهل كان الثمن دماء الأبرياء لتأمين خروجٍ آمنٍ للقيادات؟ لقد تحولت غزة إلى مسرحٍ لمأساةٍ مكتوبةٍ مسبقاً. صُورت البطولة على أنها “نصر إلهي”، لكنها في حقيقتها لم تترك إلا الموت والمقابر الجماعية. ومن المفارقات الموجعة أن كل ذلك حدث باسم “المقاومة”، بينما الشعب الذي ضحّى هو ذاته من دفع الثمن كاملاً — جوعاً، وحصاراً، ودماراً، ثم نسياناً.
أين إيران التي ملأت الدنيا صراخاً عن “محور المقاومة”؟ هل سلمت غزة كما سلّمت نصر الله جنوب لبنان لمعادلة “الهدوء مقابل الهدوء”؟ يبدو أن دور طهران لم يكن يوماً تحرير فلسطين، بل استخدام فلسطين وقوداً لمعارك النفوذ والمقايضة. فحين احتاجت المقاومة السلاح، قدّمتها إيران لتبقي النار مشتعلة، لا لتحرق الاحتلال بل لتضمن استمرار ورقة الضغط في يدها الإقليمية. وعندما حان وقت الحساب، انسحبت خلف ستار “الحكمة السياسية” وفتحت الطريق أمام صفقة “الخروج الآمن”.
أما جماعة الإخوان المسلمين، فقد كانت – كالعادة – حاضرة في المشهد الأكثر التباساً. تاجروا بدماء الشهداء كما تاجروا سابقاً بشعارات “الربيع العربي”، وأداروا المعركة بعقلية الحزب لا بعقلية الوطن. لم يكن همّهم تحرير غزة بقدر ما كان هاجسهم تثبيت حكم “الحركة”، حتى لو احترقت غزة عن آخرها. خطابهم العاطفي لم يكن سوى غطاءٍ لمشروعٍ سياسيٍ عابرٍ للحدود، هدفه النفوذ لا التحرير. وهكذا وجدنا أنفسنا أمام مشهدٍ تتقاطع فيه المصالح: حماس تبحث عن بقاء، وإيران تبحث عن نفوذ، والإخوان عن عودة، والشعب وحده يُدفن بصمت.
اليوم، وسط الركام، تتسرب الأنباء عن مواجهات داخلية، عن صراعات خفية بين حماس وجماعات أخرى — “أبو الشباب” وأمثاله — زرعها الاحتلال بعنايةٍ في نسيج غزة، ليفجرها من الداخل بعد أن أعجزه اقتحامها من الخارج. فهل بدأنا نرى أول فصول الحرب الأهلية في غزة؟ حرب الأخوة على فتات سلطةٍ ضائعة فوق أرضٍ محروقة؟ إنها الفاجعة الأكبر: حين يتحول السلاح الذي كان موجهاً نحو الاحتلال إلى صدور أبناء المخيمات.
غزة اليوم ليست بحاجة إلى بيانات شجبٍ جديدة، ولا إلى قصائد عن “الصمود الأسطوري”. هي بحاجة إلى صحوة ضميرٍ عربي، إلى مراجعةٍ صادقةٍ لكل ما جرى: من سلّم القرار؟ ومن باع المقاومة؟ ومن جعل من الشهداء وقوداً لحسابات إقليمية؟ الأسئلة كثيرة، والإجابات موجعة، لكن الحقيقة تبقى واحدة: غزة نزفت لتبقى حرة، فباعها من اسس مقاومتها ورعاها وعزف على أوتار الوطن والتحرير ليبقوا هم أحياء.