بقلم: هشام بن ثبيت العمرو
المجتمع الأردني يعيش منذ زمن طويل بين فلسفتين شرقيتين وُلدتا في الصين القديمة، لكنه صاغ منهما نسخة خاصة به. فالحكومة عندنا ورثت روح لاو تزو الذي حلم بسلطة مركزية تنظّم كل شيء، لكنها هنا تجاوزت الحلم إلى واقع يضع المواطن تحت إشرافها الدائم، فلا تكاد تترك شاردة ولا واردة إلا وتدخلت فيها، من الاقتصاد إلى الثقافة وحتى تفاصيل الحياة اليومية. وعلى الضفة الأخرى يقف المجتمع الأردني بملامح كنفوشية متجذرة، محكوم بالقبيلة والعائلة والعرف، حيث الاحترام للأقدمية، والطاعة للتقاليد، والولاء للروابط الممتدة.
هذا التداخل جعل المواطن يعيش في مساحة رمادية، لا يعرف إن كان ولاؤه يجب أن يتجه نحو الحكومة المركزية التي تقول “أنا الأصل”، أم نحو المجتمع الكنفوشي الذي يقول “أنا الجذر”. وهنا يولد الخلل الاجتماعي الذي نراه يومياً: حكومة تفرط في المركزية حتى الاختناق، ومجتمع يتشبث بالتقاليد حتى الجمود، وفرد حائر بين الاثنين.
ولعل أوضح الأمثلة على لاو توزية الحكومة هو مشهد “جوائز الترضية” في المناصب القيادية. فالمسؤول عندنا لا يتقاعد حقاً، بل ينتقل من كرسي إلى كرسي، ومن منصب إلى آخر، وكأن المناصب جوائز تسلّم لإرضاء الأشخاص أكثر مما تُمنح لخدمة الوطن. فيتحول المسؤول إلى فارس دون كيشوت، يخوض معارك وهمية، لكن لا أحد يجرؤ على أن يضع سيفه جانباً.
وإذا كان المنطق الكنفوشي يقتضي أن يكون مجلس النواب هو صوت المجتمع وامتداده الطبيعي، فإن الواقع يشي بعكس ذلك تماماً. فالنواب الذين يُفترض أن يكونوا أبناء العائلة الكنفوشية أبوا إلا أن يجلسوا إلى جانب لاو تزو الأردني، يتماهون مع الحكومة في خطابها، ويتركون المجتمع بلا منبر حقيقي. وهكذا يغيب التوازن، وتترسخ الهيمنة، ويصبح المشهد السياسي أقرب إلى جوقة واحدة تعزف لحن المركزية، بينما المجتمع يصفق صامتاً أو يكتفي بالهمس على المقاعد الخلفية.
ولو عاد لاو تزو وكونفوشيوس إلى الحياة ووقفا على أرض الأردن، ربما تبادلا نظرة دهشة عميقة: الأول سيجد أن الحكومة صارت أكثر لاوتوزية مما تخيل، والثاني سيشعر بالخيانة لأن أبناؤه – ممثلو المجتمع – تركوه وذهبوا ليجلسوا في حضن السلطة. عندها فقط سيدركان أن الأردن قد صنع خلطة نادرة لا وجود لها في كتب الفلسفة: حكومة تكدّس المركزية وتوزع المناصب كجوائز ترضية، مجتمع متكلّس في أعرافه، ومجلس نواب كنفوشي الهوية… لاوتوزي الولاء.