وزراء بعد التقاعد: ثوار بالبودكاست… فاشلون بالسلطة

27 ثانية ago
وزراء بعد التقاعد: ثوار بالبودكاست… فاشلون بالسلطة

بقلم:الدكتور ابراهيم النقرش

ما إن يتقاعد الوزير أو يغادر رئيس الحكومة كرسيه”الاستثناء موجود” ، حتى يتحوّل فجأة إلى “ثائر بودكاستي” “ومذكراتي “ومنظّر إصلاحي بامتياز. الرجل الذي قضى سنواته يردّد “تمام يا فندم” صار اليوم فارساً لا يشق له غبار، يوزّع النصائح، ويفضح الأسرار، ويكشف للمواطنين أن الدولة كانت تُدار بالشللية والخداع وكأنهم لم يكونوا هم أنفسهم مهندسي تلك المسرحيات. إنها بطولة بمفعول رجعي، وبطولات لا تُصرف إلا في سوق البودكاست… حيث الثمن بالدولار، والبطولة بالكلام بعد خراب مالطا.
في الأردن، تحولت هذه الظاهرة إلى مشهد مألوف؛ إذ يتسابق المسؤولون السابقون إلى الصحافة والمنصات الإعلامية بمجرد تقاعدهم، فيسردون قصصاً عن حياتهم السياسية وكأنهم كانوا في مقاعد المشاهدين لا في كراسي الحكم. بعضهم يعترف أنه لا يعرف كيف تم اختياره، وآخرون يلمحون إلى أن الشللية والمحسوبيات هي التي صعدت بهم إلى الواجهة. وهنا يكمن التناقض الأكبر: فكيف يصبح من صنعوا الخراب هم أنفسهم من يزعمون اليوم امتلاك وصفات الإصلاح؟
الأدهى أن هؤلاء لا يكتفون بسرد الحكايات، بل يتحدثون عن فساد مالي وإداري وسياسي، وعن تدخل الأجهزة الأمنية في التعيينات والانتخابات، وعن قرارات مصيرية مرت من تحت الطاولة، وكأنهم لم يكونوا شركاء أساسيين في صناعتها. إنهم يطرحون أنفسهم اليوم كشهود أبرياء بينما الحقيقة أنهم كانوا أدوات فاعلة في اللعبة. إن ما يقدمونه الآن ليس شجاعة، بل هروب متأخر من المسؤولية، وكشف يُدينهم أكثر مما يُدين غيرهم.
ازدواجية مواقفهم لا تحتاج إلى برهان؛ فالذين يرفعون راية الإصلاح اليوم هم من أغرقوا الدولة في المديونية، وأفقَروا المواطن، وأضعفوا الاقتصاد بقرارات مرتجلة لم تخدم سوى مصالحهم الضيقة. وحين كانوا في السلطة، لم يجرؤوا على تقديم رأي صريح أو نصح صادق، بل اكتفوا بشعار “الأمور تمام يا فندم”. بعضهم تقلّدوا عشرات المناصب لعقود، ومع ذلك لم يترك أثراً يُذكر سوى تراكم الفساد والامتيازات الشخصية.
لكن الخطر الحقيقي يكمن في الأثر الذي يتركونه على صورة الدولة نفسها. فحين يخرج مسؤول سابق ليقول إن النظام لم يكن يعلم، أو أن المؤسسات بلا محاسبة، فإنه يقدم رواية تهدم الثقة بين الدولة وشعبها، وتوحي بأن السياسة لم تكن سوى مؤامرة ضد المواطن. وفي زمن تحتاج فيه الدولة إلى تعزيز التماسك الداخلي لمواجهة التحديات الإقليمية، يأتي هؤلاء ليزرعوا الشك ويقوضوا الثقة، فيتحول كلامهم إلى سموم إعلامية لا إلى نقد وطني مسؤول.
لقد أصبحت هذه الاعترافات مادة دسمة للبودكاست والمقابلات، لكنها لا تقدم إصلاحاً ولا تبني وعياً، بل تبيع الوهم وتغذي الانقسام. الإصلاح الحقيقي لا يُقاس بكمية التصريحات بعد التقاعد، بل بالمحاسبة الحقيقية حين كان القرار في أيديهم. ومن حق الشعب أن يسأل: من أين جاءت تلك الملايين التي جمعها بعض المسؤولين , وقد اعسرهم شراء بدله شياكه حين توزيرهم على حد زعمهم ؟ وكيف تحولت المناصب إلى وسيلة للثراء بدلاً من أمانة لخدمة الوطن؟ الحقيقة أن من يتباكون اليوم كانوا شركاء في صناعة الأزمة، لا ضحايا لها.
فلتصمتوا الآن، فقد شبعنا من بطولاتكم بعد المعاش، ومن دموع التماسيح التي تسيل في الاستوديوهات ، شبعنا من ملائكيتكم وعصمتكم ..حيث يقول منهم “إني لم أُخطئ خلال عملي أو أندم على قرار أتخذته خلال عملي….ليكشف عصمتهم من قال منهم “بالتأكيد اخطأت الكثير وأرجوا الله المغفره. لقد نهبتم الدولة وأنفقتم أعماركم في ترديد “الأمر تمام يا فندم”، ثم جئتم بعد التقاعد لتبيعونا روايات البطولة في البودكاست والحوارات الصحفية. نصيحة: استثمروا صمتكم فهو أثمن ما يمكن أن تقدمونه لهذا الشعب، أما إن واصلتم عزفكم على أوتار المظلومية، فلن يراكم الناس سوى مهرّجين سياسيين ببدلات قديمة يبيعون الوهم بعد خراب البلاد.