بين لينين وغوركي

15 أغسطس 2025
بين لينين وغوركي

د. محمد عبد الله القواسمة

المعروف أن لينين (1870- 1924م) من أبرز الشخصيات السياسية والفكرية في القرن العشرين، وهو زعيم ثورة 1917م، التي استولى فيها البلاشفة على السلطة في روسيا القيصرية. وغدا الرئيس الأول للاتحاد السوفييتي السابق.
أما غوركي (1868- 1936 م) وتعني الكلمة بالروسية «المر» وهو الاسم المستعار للأديب الروسي، بل لأهم رائد من رواد الأدب الروسي، واسمه الحقيقي الكسي مكسيموفتش بيشكوف، الذي ارتبطت باسمه مدرسة الواقعية الاشتراكية؛ لأنه، في ذلك الوقت، كان أديب روسيا الكبير، الذي وظف الأدب في خدمة الشعب، والطبقات المسحوقة. وتجلى ذلك في روايته «الأم» (1906)، وفي أعماله الأخرى، مثل رواية «الطفولة»، ورواية «حياة كليم سامجين»، ومسرحية «الحضيض» وغيرها.
والاثنان، غوركي ولينين ولدا في روسيا، وهما متقاربان في العمر، وتعارفا خارج وطنهما، وكانا معارضين للنظام السياسي. وعرف لينين بأنه قائد حزب مناهض لقيصر روسيا، وهو الحزب البلشفي. وغوركي أديب كبير مؤيد حزب لينين. وتعمّقت علاقتهما في المنفى، وبخاصة في إيطاليا حيث حل لينين ضيفًا على غوركي فترة من الزمن في منزله بجزيرة كابري عام 1910م.
في البداية وقف غوركي في صف حزب البلاشفة، وعمل على خدمة سياستهم، حتى إنه هاجم مسرح موسكو الفني حين قدم رواية دوستويفسكي «الممسوسون»، لأنها لم تؤيد الارهاب في النضال السياسي، وهي الرواية نفسها التي وصفها لينين بأنها سخافات، ولا وقت لديه لمطالعتها.
بدأ خلاف السياسة والأدب بين الرجلين مع ظهور رواية «الاعتراف» 1908، التي طرح فيها غوركي توحيد الأفكار الثورية التي آمن بها مع المعتقدات الدينية للشعب الروسي؛ فكان يرى أن القيم الاخلاقية والروحية أكثر أهمية لنجاح الثورة من العناصر الاقتصادية والسياسية. ورفض لينين تلك الأطروحة بشدة، واعتبرها غير صحيحة البتة، ولكن غوركي أعلن تمسكه بها.
ثم تطور هذا الخلاف بعد قيام الثورة البلشفية عام 1917م. لقد فجع غوركي بخداع الثورة للفلاحين والعمال، فلم يحصل هؤلاء على ما وُعدوا به من أن يكونوا أصحاب الأرض والمصانع؛ فقد ترأسهم رجال الحزب البلشفي الذين لا علاقة لهم بالأرض والصناعة. وأسس تروتسكي، مفوض العلاقات الخارجية في الحكومة الأولى التي أسسها لينين معسكرات الاعتقال «الغولاغ»؛ لاستغلال السجناء في الصناعة وكهربة البلاد.
وتوترت علاقات غوركي بالبلاشفة، وهاجم فلاديمير لينين وليون تروتسكي لأنهما «تسمما بسم السلطة القذر»، وتنكرا لحقوق الفرد في تحقيق أحلامه الثورية. وشبه غوركي لينين بكيمائي يجري تجاربه على» لحم روسيا الحي» بخلاف الكيميائي الحقيقي الذي يجري تجاربه على مادة غير جية. وزاد التوتر في علاقات غوركي بلينين عندما وقعت صحيفته « الحياة الجديدة «في قبضة الرقابة البلشفية. وفي تلك الفترة عام 1918 نشر غوركي كتابه «افكار في غير أوانها» وهو مجموعة مقالات كتبها بين عامي 1917 و1918، قدم فيها النقد اللاذع للثورة البلشفية، وأساليبها في العنف وتدمير الثقافة الروسية، ووصف لينين بالطاغية، وقارنه بالقيصر. ولم يطبع الكتاب مرة أخرى إلا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومجيء غورباتشوف إلى السلطة. مع العلم أن غوركي تراجع عن أفكاره في الكتاب بعد محاولة اغتيال لينين عام 1918.
ضاق لينين ذرعًا بغوركي وممارساته المناوئة للثورة البلشفية، ودفاعه عن المثقفين ومتطلباته من أجلهم، كما فعل بشأن الشاعر الكسندر بلوك حين طالب بإرساله إلى العلاج في الخارج، لكن لم يسمح له وترك ليواجه الموت. دفع ذلك الضيق لينين ليتحدث مع غوركي عن حالته الصحية وحاجته إلى النقاهة، وعرض عليه بأن يذهب إلى الخارج في رحلة استجمام وشفاء، وهدده بطريقة غير مباشرة بأنه إذا رفض سيرغمه على ذلك.
غادر غوركي روسيا إلى ألمانيا في أيلول 1921م، وفيها زاد من معارضته لينين وتروتسكي عندما سمع عن محاكمة اثني عشر من الثوريين الاشتراكيين، وكتب إلى الأديب الفرنسي أناتول فرانس، يدعوه ليندد بالمحاكمة. كما كتب إلى نائب رئيس الوزراء السوفييتي، وطلب منه إعلام تروتسكي بأن أي أحكام إعدام تُنفذ على المتهمين هي «جريمة قتل متعمدة وشنيعة»
ازدرى لينين ما قام به غوركي، ووصفه بأنه ضعيف الشخصية في السياسة، أما تروتسكي فقال عنه إنه «فنان لا يأخذه أحد على محمل الجد». وظلت حدة الخلاف بين غوركي ولينين في ارتفاع حتى وفاة لينين عام 1924م.
من الواضح أن العلاقة بين لينين وغوركي يمكن تقديمها بأنها النموذج الأمثل للعلاقة بين السياسي والأديب، فالعلاقة بينهما كانت علاقة متوترة، كما هي العلاقة غالبًا بين السياسي والأديب؛ لأن السياسي يتجه إلى التعامل مع الواقع، ويسعى إلى تحقيق الممكن من الأهداف، ولا يقيم وزنًا للعواطف والمثاليات، وعلاقاته بالناس تقوم على المصلحة والخضوع. أما الأديب فيتعامل مع الواقع ممزوجًا بالخيال والأحلام، ويجنح دائمًا إلى الخروج عن المألوف، والتمرد على الواقع. وهو من دعاة الحرية، وتحقيق العدالة والمساواة بين الناس دون الاهتمام بأي ظروف أو أحوال.
لكن من الضرورة الإشارة إلى أن العلاقة بين السياسي والأديب يظهر فيها الأديب على السياسي ويتفوق عليه بقدرته على التسامح والوفاء، فكما في علاقة لينين بغوركي، فقد بقي غوركي بعد وفاة لينين محتفظًا بحبه لصديقه؛ وحزن عليه عند وفاته حزنًا عميقًا، وعبر عن هذا الحزن في كتيب نشره بعنوان «أيام مع لينين» يمدح فيه بساطة الرجل، وذكائه، ونشاطه، ودفاعه عن المجتمع الروسي.