وطنا اليوم:مع إشراقة شمس يوم التاسع من ذي الحجة، تدفقت جموع الحجيج إلى صعيد عرفات، متوشحين البياض، ومرددين التلبية وقلوبهم خاشعة، وألسنتهم تلهج بالدعاء في أعظم يوم في أيام الدنيا.
منذ ساعات الصباح الأولى، اكتسى جبل عرفات ومحيطه بحشود الحجاج الذين انتشروا في كل الأرجاء، بين من اتخذ ظلال الأشجار وخيام الحملات مكانا للدعاء، ومن اعتلوا الجبل أو افترشوا الأرض يرفعون أكفهم إلى السماء، مستحضرين ذنوبهم وأمانيهم وآمالهم، في موقف تتجلى فيه المساواة بين البشر، لا فرق بين غني وفقير، أو عربي وعجمي إلا بالتقوى.
دموع ومناجاة
على سفح الجبل، وقفت الحاجة فاطمة من المغرب وقد اغرورقت عيناها بالدموع، وقالت “كنت أظن أنني سأبكي يوم أرى الكعبة، لكن اليوم قلبي يكاد ينفطر من رهبة هذا المكان.. أشعر أني بين يدي الله”. وأضافت أن أكثر دعواتها كانت أن يغفر الله لها ولأهلها، وأن يرفع الظلم عن المظلومين في كل مكان.
أما الحاج محمد من السودان فكان جالسا على صخرة في منتصف الجبل، يردد بصوت خافت دعاء مأثورا عن النبي صلى الله عليم وسلم، ثم يجهش بالبكاء. قال لنا “في هذا المكان نُبعث، وهنا نسأل الله العفو والرحمة.. دعوت لأولادي وأهلي وللسودان أن يحقن الله دمه ويرفع عنه الكرب”.
أجواء روحانية مميزة
مع ارتفاع درجات الحرارة، كانت رياح خفيفة تنعش الأجواء بين الفينة والأخرى وكأنها رسائل رحمة من السماء، في حين انتشرت فرق المتطوعين والإسعاف لتقديم المياه والمساعدات الطبية، وحرص رجال الأمن على تنظيم الحشود وتوجيههم بسلاسة نحو أماكن الوقوف والخروج.
رائحة المسك والعطور كانت تعبق في الأجواء، حيث عمد كثير من الحجاج إلى رش خيامهم وثيابهم، بينما علا صوت المآذن بالتكبير والدعاء، وامتزج بصدى التلبية القادمة من الحناجر المتنوعة في لغاتها والموحدة في مقصدها “لبيك اللهم لبيك”.
وفي خيمتها القريبة من جبل الرحمة، قالت الحاجة رنا من فلسطين إنها خصّت دعاءها هذا العام لأهل غزة، ورفعت كفيها باكية وهي تقول “دعوت الله أن يرحم الشهداء، وأن يُنقذ الأطفال.. والله إن القلب ليتفطر ولا نملك إلا الدعاء”.
أما الحاج عبد الله من إندونيسيا فقال “لم أتصور أن أقف على جبل عرفات يوما، وقد دعوت الله أن يبلغني الحج عن والدتي المريضة، وأن يعمّ السلام العالم الإسلامي”. وأضاف أن التنظيم ساعده كثيرا على أداء نسكه رغم كبر سنه.
منصة المناسك
ولأول مرة، بثت بعض الحملات عبر تقنيات الواقع الافتراضي مشاهد مباشرة من عرفات لعائلات الحجاج حول العالم، مما أضفى بعدا وجدانيا فريدا، خاصة لأولئك الذين لم يتمكنوا من الحج.
وقدّم بعض الدعاة كلمات توجيهية من على المنصات المنتشرة على صعيد عرفات، مذكرين الحجاج بفضل هذا اليوم وأهمية الإكثار من الدعاء، خصوصا عند الزوال، حيث تتوجه القلوب بكاملها إلى الله، في لحظة لا تتكرر إلا مرة واحدة في العمر.
ومع غروب الشمس، تهيأت الجموع للنفرة إلى مزدلفة بهدوء وتنظيم على وقع الدعاء والتكبير. وبينما كانت الشمس تغيب خلف الأفق، كان الحجاج يودعون عرفات بقلوب ممتلئة بالرجاء بأن يكونوا من الذين غُفر لهم وعُتقوا من النار.
في هذا اليوم، تبدو الدنيا كلها وقد اجتمعت في مكان واحد، وقد نسيت مشاغلها ومظاهرها، لتقف أمام الله بقلوب خاشعة، تسأله المغفرة والقبول. مشهد يعكس عظمة الشعيرة، وعمق الإيمان، وصدق التوجه في يوم عرفة.