القفز من عالمنا القديم إلى عالم جديد: سقوط مفهوم الدولة الوطنية وملحقاته

منذ 3 دقائق
القفز من عالمنا القديم إلى عالم جديد: سقوط مفهوم الدولة الوطنية وملحقاته

بقلم : د. لبيب قمحاوي
يتجه العالم الحالي نحو نمط جديد من العلاقات بين دوله بشكل عام خصوصاً الكبرى منها . الآن ، وبعد أن استنفذ العالم القديم أدواته وأساليبه ومؤسساته بشكل أدى إلى إفراغها من أية فعالية ، وجعل منها في كثير من الأحيان عقبة أمام أهداف ومصالح الدول الكبرى أو بعضها مثل الأمم المتحدة أو محكمة الجنايات الدولية أو مؤسسات حقوق الانسان الخ ، يبدو من الواضح أن الدول الكبرى طبقاً للنظام الدولي السائد قد بدأت تسعى إلى تغيير هذا النظام واستبدالِهِ بنظام آخر يكون أكثر انسجاماً مع المتغيرات القادمة في العالم الجديد وكذلك مع مصالح الدول الكبرى المؤثرة سواء القديمة منها مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا ، أوالجديدة مثل الصين والهند والبرازيل والهادفة جميعها إلى العمل ضمن مفاهيم وأولويات العالم الجديد .
المؤشرات على طبيعة التغيير القادم قد تأتي بصور وأشكال مختلفة كما عبَّرَت عنها مؤخراً وبشكل جزئي تصريحات الرئيس الأمريكي المنتخب ، دونالد ترمب ، بخصوص كندا وجرينلاند وبَنما ، وتصريحات أقرب مستشاريه وأصدقائه ، ألون مسك (Alon Musk)، بخصوص ألمانيا وبريطانيا ، والتي فاجأت العالم بخطورتها وخطورة تَبِعاتها ومؤشراتها على الوضع الدولي السائد والمتعارف عليه خصوصاً وأنها تجئ بين حلفاء وليس بين أخصام . هذه البداية الخطيرة لفترة ولاية ترمب الثانية ليست بداية عشوائية أو انعكاساً لتصريحات متهورة ، ولكنها تجئ في العمق كترجمة لفكر جديد ولمتغيرات استراتيجية قادمة تعكس أولوية المصالح الإقتصادية والتكنولوجية وأولوية السيطرة على الموارد الطبيعية بأشكالها المختلفة على أية تحالفات سياسية تقليدية أو أية مفاهيم متعارف عليها مثل الهوية الوطنية والحدود السياسية ومفهوم الدولة الوطنية ببعديه المادي والرومانسي .
تؤشر الحقبة المقبلة على نضج الظروف الموضوعية للتخلي عن المواصفات والعلاقات السياسية المتعارف عليها لعالمنا الحالي وقدسية الوسائل التقليدية السائدة فيه والناظمة لكيفية التعامل بين الدوله . من الواضح أن الحقبة الإنتقالية القادمة بين العالم القديم كما نعرفه ، والعالم الجديد الذي لا نعرفه بعد قد تتميز ببعض أشكال الشذوذ أو العنف خاصة فيما يتَعَلّق بقضايا تنتمي في أصولها إلى العالم القديم مثل القضية الفلسطينية ، إلاّ أن أدوات التعامل سوف تنتقل عموماً وبشكل ملحوظ إلى الأدوات الأقل عنفاً والأكثر إعتماداً على جبروت وإمكانات التكنولوجيا العالية من جهة والضغوط الإقتصادية والمالية من جهة أخرى . إن العالم الجديد سوف يكون بشكل عام أقل اهتماماً بالقضايا التي كانت تحظى تقليدياً بإهتمام العالم القديم ، وأقل دموية في أساليبه ، ولكن أكثر إهتماماً في إحترامه لأهمية النقاء البيئي والمحافظة على الموارد الطبيعية خصوصاً غير المتجددة منها من عمليات التبديد والتبذير ، وإعتبار ذلك مسؤولية أممية ودولية تتجاوز المفهوم التقليدي للحقوق المرتبطة بالسيادة الوطنية .
لقد دفع الشُحّْ المتزايد للموارد الطبيعية المتناقصة بحكم الزيادة الهائلة في أعداد البشر وفي النزعة الاستهلاكية ، إلى زيادة التنافس بين الدول على السيطرة على تلك الموارد ، متجاوزة في ذلك المسعى محددات القانون الدولي السائد . يجئ هذا التطور الإستراتيجي الجديد على حساب مفهوم السيادة الوطنية خصوصاً للدول الضعيفة التي لا تملك القدرة على حماية استقلالها ومصالحها وإدارة مواردها الطبيعية بكفاءة ومسؤولية ، وبالتالي قدرتها على استمرار سيطرتها على أراضيها ومواردها وحتمية فقدان تلك القدرة لصالح الدول الأقوى والتي تملك إمكانات إقتصادية وتكنولوجية تُمكنها من فرض رؤيتها وتحقيق أهدافها .
وهكذا، فإن مفهوم الحدود الدولية للدولة الوطنية وبالتالي سيادتها على مواردها الطبيعية سوف ينحسر تدريجياً إنفاذاً لمسعى تدويل تلك الموارد لصالح البشرية بشكل عام ولصالح الدول الأكثر تطوراً خصوصاً في حقول التكنولوجيا العالية وما يتفرع عنها من تطبيقات في مختلف الحقول . وهذا الأمر سوف يُعيد تصنيف العالم من قوى تمتلك السلاح التقليدي الأقوى إلى دول تمتلك التكنولوجيا الأعلى وبالتالي القدرات الأكثر تأثيراً . وهذا الأمر سوف يؤشر إلى عالم يخلو تدريجياً من الدول الصغيرة الهامشية أو الدول الطفيلية التي تعيش رخاءً مؤقتاً من خلال تبذير مواردها الطبيعية. إن مبدأ ملكية الموارد الطبيعية لصالح البشرية بشكل عام سوف يصبغ أولويات العالم الجديد مما يعني أن المسؤولية الجماعية التي سوف تصبغ هذا العالم الجديد سوف تتعامل مع البشرية كقيمة جامعة تسمو على المفهوم السياسي والثقافي الوطني للشعوب كقيمة جزئية تحظى على الأولوية في إهتمام كياناتها السياسية كما تعبر عنها الدولة القطرية .
المأزق الذي سوف تجابهه البشرية يكمن في القدرة على التعامل مع العالم الجديد ومفاهيمه وأولوياته . إذ من الصعوبة بمكان أن يتم هذا الأمر بإستعمال مفردات العالم القديم ومفاهيمه الأمر الذي سوف يخلق تناقضاً ملحوظاً وشططاً في محاولة تفسير الجديد بالقديم الذي فقد مفعوله وقدرته على استيعاب ما هو جديد والتعامل معه . ومن هنا فإن الحقبه الانتقالية بين ما هو قديم وما هو جديد قد تتميز بشذوذ واضح في محاولات التوفيق بينهما ، وهكذا فمن المرجح أن يقوم البعض بتفسير العديد من مفاهيم العالم الجديد بالعدوانية ومخالفة القانون الدولي السائد طبقاً لمفاهيم لعالم القديم .
الصراخ والهتافات والغضب الذي صبغ العديد من مواقف البشر في العالم القديم لن يعود وسيلة مقبولة للتعبير في العالم الجديد الذي سوف يتميز ببرودة واضحة في التعبير عن مشاعره وفي طبيعة العلاقات الانسانية المتبادلة بين مجتمعاته ، وسيكون بالتالي أقرب إلى تحكيم العقل والمصالح على حساب العواطف ، واللجوء إلى الضغـوط التكـنولوجية والمالية سوف يكون هو السلاح الأهـم والأكثر فعـالية في التعامـل بين الكيانات المختلفة عوضاً عن اللجوء إلى السلاح التقليدي أو إلى المفاهيم والصراعات العقائدية التي سوف تختفي أهميتها تدريجياً من عالم السياسية لصالح المفاهيم الجديدة .
التطور هو مسار طبيعي يعكس في أصوله نزعة الجنس البشري نحو الارتقاء والتقدم ، وهو عملية تراكمية تشكل في مجموعها وعلى مر الأزمان مسيرة الحضارة الإنسانية . التطور هو في العادة عملية بطيئة تاريخياً تتسارع مع مرور الوقت وبحكم تراكم الانجازات الحضارية مثل التي أوصلتنا إلى عصرنا الحديث الذي تميز بسرعة التطور التكنولوجي وإلى الحد الذي جعل عملية التطور عبارة عن طفرات متلاحقة يلهث العالم وراء محاولات فهمها وإستيعاب انجازاتها المتتالية وأثرها الملحوظ في تغيير أنماط الحياة . وهذه العملية سوف تستمر إلى أن تصطدم البشرية في المستقبل بجدار من الثقوب التكنولوجية السوداء (Technological Black Holes)التي سترافق الانجازات المترتبة على سيطرة الذكاء الإصطناعي (Artificial Intelligence) على مجرى عملية التطور والتي قد تؤدي في النهاية إلى تخفيف الصبغة البشرية لتلك الانجازات لصالح الصبغة التكنولوجية البحتة