محمد داودية
عندما حطّ الملك بالطائرة على مدرج مطار ماركا عائداً من رحلة العلاج الأولى في أيلول 1992، كان أول ما قام به، هو انه صلّى على أرض بلاده العزيزة، صلاة شكر لله عز وجلّ. ثم توجّه بموكبه الجماهيري المهيب إلى قصر زهران مخترقا شوارع العاصمة، التي اكتظت بأهل مملكته، يستقبلونه بالأهازيج وحلقات الدبكة والزغاريد والأدعية القلبية الحارة والأرز والورود والنذور.
وهناك في قصر زهران قبّل الملكُ الإبن، يدي والدته الملكة زين الشرف ورأسَها، فحصلنا على لقطة نموذجية فائقة الكرامة لكل أم أردنية.
للملك الحسين مكانة سامية لدى ملوك المغرب العلويين، ولدى أبناء الشعب المغربي كافة.
فطائرة الملك الحسين كانت أول طائرة تحط في مطار سلا بالرباط، للتهنئة بنجاة الملك الحسن وفشل محاولة اغتياله في انقلاب الصخيرات الشهير الذي دبّره الجنرال أوفقير وقاده الكولونيل أمحمد أعبابو ومحمد المدبوح يوم 10 تموز سنة 1971.
عندما حطت طائرة الحسين في الرباط، لم يكن الانقلاب قد انتهى كليا، وكانت فلول الانقلابيين تحتجز عبدالحليم حافظ في الإذاعة وتحاول ارغامه على قراءة «بيان الانقلاب الأول» وكانوا أيضا في عدة مراكز حساسة في الرباط.
ومكانة الملك الحسين السامية في المغرب مستمدة أيضا من النسب الهاشمي الشريف الذي يتصل بملوك المغرب.
فالهاشميون والعلويون أبناء عمومة تفرعوا من جذر قرشي عريق شريف واحد.
وقد سمعت بنفسي ملكنا الغالي عبد الله وملك المغرب محمد السادس يتبادلان الحديث دون تكليف ويتخاطبان بالاسم الأول. وكنت آنذاك في بعثة الشرف بمعية صاحب السمو الملكي الأمير غازي بن محمد رئيس بعثة الشرف المرافقة للملك محمد السادس عندما زار الأردن في أيار 2002 وأنا سفير في المغرب.
لو تصدّق كل من وفّر له الحسين، جامعة ومدرسة ومستشفى وطريقاً وميناء، بدينار واحد عن روحه، أو قرأ عليها الفاتحة مرة واحدة، لكان ذلك أقل الوفاء.
كان الحسين يتوفر على طاقة إيجابية مذهلة. كان «ملحّق على كل الدنيا»، له ذاكرة مذهلة فلا ينسى. يهتم بالانسان كثيراً ويهتم بالشباب كثيرا جدا. ويتقن فن البقاء اتقاناً لافتاً يدعو إلى الإعجاب، حتى من خصومه وأعدائه.
كان أقدر قادة العرب والعالم على تطبيق قاعدة «صفر أعداء».
وقد رعته عين الله فنجا من محاولات انقلاب عديدة تم الكشف عن بعضها وتم اغفال وإهمال بعضها.
والملك الحسين من أكثر القادة الذين تعرضوا إلى سوء الفهم وإلى الظلم المفرط. لكن معظم الذين ناصبوه العداء، عادوا إلى امتداحه، بعد أن تبينوا معدنه وحقيقته، وخاصة الرئيس جمال عبد الناصر، الذي امتدحه في برقيته الشهيرة، بعدما شتمته إذاعة «صوت العرب»، نحو عقد من السنين، وصمته خلالها بالخيانة والعمالة والرجعية، إلى آخر أوصاف ذلك الزمن العربي المقيت الغابر، زمن الهزائم والانكسارات والنكبات.
جاء في برقية الرئيس جمال عبد الناصر إلى الملك الحسين بالحرف الواحد:
(اخي الملك حسين،
عندما يكتب التاريخ سوف يذكر لك جرأتك وشجاعتك. وسوف يذكر للشعب الأردني الباسل أنه خاض هذه المعركة فور أن فرضت عليه، دون تردد ودون أي اعتبار إلا اعتبار الواجب والشرف.
بقي لي وانا اعلم كل جوانب الظروف التي نمر بها أن أعبر لك عن كل تقديري لموقفك الشجاع ولإرادتك الحاسمة وللبطولة التي أظهرها كل فرد في الشعب الأردني والجيش الأردني.
اخوكم جمال عبد الناصر.)
وكان «جابر عثرات الكرام» بحق. يحتفظ عنده بسجلات للرجال الشرفاء الذين يتقنون عفّة النفس. وكان «كسّاب وهّاب» يجود بلا حدود. وهو من خير من عرفت الأرض من الكرماء، الكرم الخفي الذي لا منّة فيه ولا رِئاء.
وظلت القدس قبل احتلالها وبعده، غاليته ووجعه وموضع رعايته من خلال الإعمار الهاشمي وكل اشكال الدعم. ولذلك باع بيته في لندن بمبلغ 8.25 مليون دينار حملها كاملة، معالي نبيه شقم، إلى لجنة إعمار المسجد الاقصى المبارك وقبة الصخرة المشرفة والمباني الدينية الأخرى فيه.
يرحمك الله أبا عبد الله
ويمد الله في عمر ملكنا الحبيب الغالي عبد الله الثاني، الذي يحمل جيناتك وإسمك ورايتك، ويواصل دربك الشاق الصعب، بكل حيوية وجسارة وحنكة، في ظروف قاهرة وإقليم مجنون.