في خطابه الموجه الى مؤتمر القمة الاقتصادي التاسع عشر، أشار جلالة الملك عبد الله الثاني الى نقاط رئيسة، لا بد من التفكير فيها بعمق. الأولى، اعادة بناء النظام العالمي لتحقيق التعافي الاقتصادي بشكل أكثر شمولا بعد أزمة فيروس كورونا، والثانية؛ أن التنمية المستدامة التي اطلقتها الأمم المتحدة العام 2015 ووقعت على وثائقها معظم دول العالم بما فيها الأردن، أصبحت مهددة بسبب كورونا، بخاصة في الدول النامية والفقيرة، وهي بحاجة للمساعدة، والثالثة، ان تراجع الاقتصادات وتعثر التنمية المستدامة، سيتأتى عنها مزيدا من البطالة واتساع مساحات الفقر، والرابعة، أن أساس التعافي الاقتصادي، هو التعاون والشراكات الثنائية والثلاثية على مستوى الاقليم، والخامسة ان الاعتماد على الذات واستثمار الامكانات الوطنية، تمثل المدخل الصحيح للمساعدة وللتعاون، والسادسة، أن تفاقم ازمات المناخ والغذاء والبطالة والتفاوت الاجتماعي، تهدد استقرار الدول والأقاليم على حد سواء. وعند التمعن في فحوى ما جاء في الخطاب الموجه الى المجتمع الدولي، يدرك الباحث، أن جوهر هذا الخطاب، موجه الى كل دولة في داخلها، كما هو موجه الينا في الداخل الأردني أيضا، وان البناء الذاتي الوطني هو الطريق الصحيح نحو اعادة بناء نظام عالمي أكثر عدلا وانصافا وعلى النحو التالي: أولا: الشراكات والتشبيك، وهذا يتطلب من المؤسسات الوطنية الرسمية والاهلية والاكاديمية والتعاونية، التشارك في صنع القرار والتشبيك فيما بينها بالمعلومات والدراسات والأبحاث، حتى لا تبقى كل مؤسسة تعمل بامكاناتها الذاتية فقط، بكل الضعف والنقص الذي تعانيه ، والمؤسسة المنفردة، ومن شأن ذلك أن يؤدي الى منظومة تكاملية وطنية، لتكون مدخلا صحيحا الى التكامل بين الدول. وهذا ما تحتاجه أقطار الاقليم، بخاصة المتجاورة منها. ثانيا: تحويل الأزمة الى فرصة، فالكورونا أصابت الاقتصادات الدولية كما الوطنية بضربة قاسية، لا طريق للخروج منها الا بتعزيز الانتاج الوطني والاهتمام بالصناعات الصغيرة والمتوسطة، باعتبارها الموظف الرئيس للقوى العاملة، والعمل على مساندتها وتطويرها عبر مؤسسات متخصصة في كل محافظة. ثالثا: الاهتمام بالمجتمعات الضعيفة عالميا، ليحدث التوازن المطلوب. والأمر كذلك على المستوى الوطني، بخاصة وان معدلات النمو الاقتصادي المتواضعة 2 % على مدى السنوات السابقة، بالاضافة الى جائحة كورونا. كل ذلك أخل بالتوازن الاقتصادي الاجتماعي بين المحافظات، ووسع مساحات الفقر لتصل الى 24 % من السكان. وهناك مناطق أو بؤر تعاني من الفقر المدقع، تصل نسبة الفقر فيها الى 30 %. وهذا يستوجب انشاء مشاريع انتاجية صغيرة جدا وصغيرة، عبر تعاونيات محلية وبدعم من الحكومة والشركات الكبرى، وليكن انتاجها بديلا للمنتجات المتنوعة التي نستوردها من بقاع العالم. كما أن الفرصة مواتية للتركيز على السلوكيات الصحية في المؤسسات والمدن والقرى، وتغيير بعض العادات المجتمعية التي تنقل العدوى وغيرها، وهنا ينبغي أن يكون للاعلام والثقافة دور كبير في هذا الاتجاه. رابعا: عمل الأردن مع شركاء في المنطقة في الزراعة والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات والخدمات العلاجية والصناعات الدوائية. ومثل هذه الصناعات التي أثبتت قدراتها وتفوقها، ينبغي أن تكون قاطرة لخلق صناعات جديدة، تتكامل معها وتوفر لها مدخلات الانتاج. وبذا تكون هذه المنظومة الوطنية منصة انطلاق للتصنيع والتحديث كما يطمح الأردن، لأن يكون دوره في الاقليم. خامسا: ازمات المناخ والغذاء. فالأردن من أكثر دول المنطقة تأثرا بالتغيرات المناخية، وبالتالي انتاج الغذاء، وذلك بسبب الحرارة الممتدة لأشهر طويلة وتراجع الأمطار وشح المياه. وهنا لا بد من المسارعة لوضع برنامج وطني لتعويض النقص بتحلية المياه عبر الطاقة الشمسية، واعادة تدوير المياه وحفظها وحسن ادارتها، وتطوير أساليب الزراعة وسلالاتها وتكنولوجياتها، لتكون أقل استهلاكا للمياه. أن مواجهة أزمة الغذاء والوصول الى أمن غذائي مقبول، ونحن نستورد أكثر من 85 % من غذائنا، لا يتحقق دون تكامل الطاقة مع المياه مع التكنولوجيا المتقدمة في الزراعة. سادسا: البطالة والتفاوت الاجتماعي الاقتصادي. وكما أن التفاوت والفروق تمثل ظاهرة متفاقمة بين دول العالم، فإنها ظاهرة محلية أيضا، ولا بد من التصدي لها. فقد تدرجت البطالة بالارتفاع لدينا منذ عشر سنوات من 12 % العام 2010 حتى وصلت الى 23.5 % العام 2020. وهو رقم يعادل 3 أضعاف المعدل العالمي للبطالة قبل كورونا، وهناك محافظات تصل البطالة فيها الى 30 %، بخاصة بين الشباب وخريجي الجامعات وبشكل خاص بين الاناث. ويتأتى عن البطالة، تعميق التفاوت الاجتماعي الاقتصادي، وخلخلة الأمن المجتمعي، والانحراف والجريمة والتعصب والتطرف، بالاضافة الى الفقر وضمور الطبقة الوسطى. ومرة ثانية ومنذ سنوات، والباحثون والمفكرون والاقتصاديون يكتبون ويصرخون، ألا سبيل الى مواجهة البطالة الا بالمشاريع الانتاجية. الهجرة والاغتراب لا تحل المشكلة. والتوظيف الحكومي لا يجدي. والتأجيل والترحيل يفاقم الأزمة.. إن مستورداتنا تصل الى 15 مليار دينار سنويا، ولا بد من انتاج جزء كبير من هذه المستوردات عبر مشاريع وطنية. هكذا خرجت الصين والهند وماليزيا وكل الدول الناهضة من أزمة البطالة والتفاوت الاقتصادي الاجتماعي. فلماذا لا يكون لدينا برنامج واضح في هذا الاتجاه؟ لا أحد في الادارة الرسمية لديه اجابة مقنعة.. هناك فقط اعذار ومبررات وتفسيرات. ولكن علينا أن نعمل لكي تتحول الأزمة الى فرصة كما يقول جلالة الملك. وهذا لم يتحقق بعد. سابعا: التوازن بين الاعتماد على الذات والتكامل. فالذات التي يشير اليها الخطاب، هي الذات الوطنية. فهل وضعنا برنامج عمل للاعتماد على الذات في القطاعات المختلفة، بخاصة التي لها أثر اقتصادي اجتماعي كبير؟ المقصود هنا أن ندرك بأن زمن الأموال الجاهزة والمساعدات والمنح قد ذهب. ولا بد لكل مؤسسة وطنية، شركة أو مصنعا أو قطاعا، أن يحدد نقاط ضعفه واعتماده على الآخرين، لوضع خطة تساعد على تعزيز الامكانات الذاتية في اطار التشبيك والتعاون بين المؤسسات الوطنية، حتى يكون ذلك مدخلا للتعاون والتكامل مع الدول الشقيقة المجاورة. إن الاعتماد على الذات لبناء المستقبل، والتكامل المنشود، لا يؤتي ثمارا حقيقية الا إذا كان على طريق التصنيع التكنولوجي الحديث، والتقدم الصناعي المستثمر لرأسمالنا البشري، ولمعطيات الثورة الصناعية الرابعة. إن البيئة في اطار المحافظة عليها ومنعها من التدهور هي فضاء الحياة المستقبلية التي ينبغي الحفاظ عليها، بخاصة في المنطقة العربية التي يسيطر الجفاف على 85 % من أراضيها. فهل نضع برنامجا وطنيا في هذا الاتجاه قبل أن تداهمنا التغيرات المناخية بكل تعقيداتها؟ تلك هي المسألة والتحدي والفرصة في آن معا؟
24 ساعة