ذكريات و عِظات الحلقة / 11

25 أبريل 2021
ذكريات و عِظات الحلقة / 11

محمد داودية

تم نقلي من بير الى بير، من مدرسة بير ابو العلق في اقاصي جنوب الشوبك على المرتفعات المطلة على وادي موسى والبترا.

فانتهى بذلك النقل الفصل الصعب الأول من معاناتي. الى مدرسة بير الدباغات “حاضرة” المنطقة التي تتوسط قرى بير أبو العلق وحوالة وبير خداد والشماخ.

دلني المعلم المنقول محمد الملكاوي على طريقة تحضير العجين، وترك لي منقلا كبيرا، كنت أُجمِّر فيه الحطبَ ثم اضع فوق الجمر مشبكا حديديا، أضع العجين المرقوق فوقه وأقلّبه.

بعد دقائق احصل على خبز قمح محمر لذيذ لا تسعفني اللغة لوصف مذاقه اللذيذ.

العمل ممتع ومختلف في بير الدباغات. لم اعد امشي 10 كيلومترات يوميا بين القريتين (بير الدباغات وبير ابو العلق). ولذلك تفرغت للزيارات والرحلات والتجول في غابة “الهيشة” التي بين يدي والقنص والقراءة والتمتع بالطبيعة.

وضعت منقلي تدفئة في غرفة التدريس التي كانت تضم 12 طالبا، المنقل الأول قرب الباب والثاني في نهاية الغرفة. ووضعت جدولا يوميا، بحيث يقوم طالبان كل يوم بإحضار حطب التدفئة مبكرا، وإشعاله إلى أن يصبح جمرا، فيجران المنقلين إلى غرفة التدريس التي تصبح مكانا دافئا صالحا جزئيا للدراسة.

دعانا عوض إلى عشاء في مضارب اهله. ذبح خروفا “فدو” عن ابنه. مشينا قرابة كيلومتر داخل غابة الدباغات: عدنان خليل خطاب وأمين الصغيّر ومحمد موسى النعانعة وأنا.

كان الغروب فاتناً في خريف الدباغات الخميس الأخير من شهر أيلول1967.

قدّم “المعزّب” طبقا كبيرا وضع فوقه خروفا مقطعا إلى أربع او خمس قطع، تتربّع على عدة طبقات من خبز شراك القمح المُغرق باللبن وبالسمن البلدي.

بلا أرز. كان جدي يكره الرز ويقول: “اخس يا الرز الهامل”.

ما أن جلس أربعتنا حول الطبق، حتى أطفأ المعزّبُ السراجَ المعلق على واسط الخيمة وغاب، رافضا دعواتنا له بمشاركتنا الطعام.

عرفت ان المقصود من إطفاء السراج هو أن نأكل بأقصى قدر من حريتنا بلا خجل.

ما يزال طعم تلك الوجبة الفريدة في فمي.

توسعت علاقاتي فوصلت إلى مدرسة الشوبك الزراعية. هناك وجدت الأستاذ النبيل عبد الحميد خلف الجفوت صاحب السيارة الفولكواجن الصفراء. أصبح عبدالحميد يزورني في الدباغات ونواصل منها إلى وادي موسى فالبتراء.

توفرت سيارة اذن، كان عبد الحميد يصطحبني فيها إلى الطفيلة على بعد نحو 45 كيلومترا الى الشمال.

تعرفت على عدد من الطلاب منهم الطالب ثابت حسن الملكاوي، الذي أصبح دكتورا وصحافيا وباحثا ومؤلفا. وقد زرته في الثمانينات ونمت عنده ليلة في قريته المُسمّاة “المظلومة” بالقرب من ملكا.

كما كان يزورني ويبيت عندي في المفرق وعمان. وقد قدمت التعازي برحيله إلى أبنائه واهله في 22 تشرين الأول عام 2014 في ملكا.

كان التعليم رسالة يضفي علينا هيبة ونعطيه حقه من الإهتمام والاحترام.

كنت ادخل الى غرفة الصف كل يوم وانا “تكميل وسنجة عشرة”. ابتسامتي تسبقني، ذقني حليق، هندامي مرتب، حذائي ملمع، وفي جيبي حبات ملبس وبضعة قروش، لمكافأة الطلاب المتفاعلين مع الحصة.

كان على معلم تلك الأيام أن يلاحظ كل ما له صلة بطلابه، عليه أن يكون معلما وطبيبا وأمّا وأبا وأخا وصاحب مبادرة.

كان المعلمون جزءا أصيلا من المكان ومن المجتمعات. يعيشون في القرى التي يعتبرهم أهلُها مراجع ثقاة في الكثير من قضايا مجتمعاتهم السياسية والثقافية والحياتية.

وأحيانا كانوا يصاهرون ويتزوجون من تلك القرى كما حصل، على سبيل المثال مع صديقي الحميم المعلم عبد الكريم عقاب الخالدي، الذي درّست معه في الدجنية عامي 1972 و1973 وصاهر أهلها خزاعلة بني حسن كرام الناس.

خَفَّت حدة العزلة والوحشة إلى حد كبير، فقد تعوّدت على نمط العيش في بيئة الثلج. وتعودت على المكان الذي أصبح أقل عزلة.

أصبحت أمارس رياضة المشي لمسافات طويلة في زيارة معلمي القرى المجاورة: نجل وبير خداد والشمّاخ وحوالة وبير أبو العلق. وأصبحت البترا أكثر قربا وأيسر طريقا. كما أصبح السفر إلى الطفيلة ومعان وعمان والمفرق أقل صعوبة.

كنت أشارك في أعراس الأهالي “أُنقِّط” العريس وأدبك واغني و”أطخ” في كل عرس باغتين او ثلاث باغات. كان سعر الطلقة 3 قروش وكان الفشك متوفرا بكثرة.

كان ثمن رشاش “الستن بور سعيد” 7 دنانير. وثمن بندقية “السيمونوف” 10 دنانير. و ثمن “الكلاشنكوف” 15 دينارا.

امتلأت الشوبك بالأسلحة التي كان بدو صحراء سيناء يجمعونها من مخلفات الجيش المصري المدمر في سيناء، وينقلونها على الإبل، يعبرون بها حدودنا تهريبا.

ولاحقا أصبحت تلك الأسلحة المهربة جزءا من سلاح الفدائيين.

كنت أُدْعى باستمرار إلى كل ولائم الأعراس، فالمعلم نوّارة ذلك الزمان. وكنت وما زلت أحب المناسف الجماعية التي يكون لبنها خفيفا اقرب الى الماء، “مثل غسول اليدين على رأي جدتي”.

كانت الأعراس مناسبة يفترض أن أحظى فيها، أنا العازب المغترب البعيد عن أهلي، بوجبة دسمة بعد وجبات لا حصر لها من السردين والتونا والبيض والبولابيف والبطاطا.

أما وجبة الحجل والشنانير فاحيانا.

ما أن توضع المناسف على الأرض حتى يتحلّق المدعوون حولها، وفي لمح البصر تختفي قطع اللحم بين الأيدي الضخمة.

لم يكن لائقا أن “يدافش” المعلم، ولا أن ينافس على قطع اللحم !! كنت “أُنقّط” العريس ربع او نصف دينار، وأعود إلى غرفتي حانقا، لأتغذى علبتي طن أو علبة بولابيف اكسترا.

تكررت عودتي من ولائم الأعراس خائبا جائعا، فقررت أن أضع حدا لهذا الحال المائل والفشل المتكرر المؤكد.

في عرس موالٍ، تقدم المدعوون نحو المناسف إلا أنا، بقيت بعيدا. فما جدوى ان أتقدم الى المنسف الذي ليس لي فيه مصلحة أو منفعة او لحما.

ووسط إلحاح المعازيب عليّ أن اتغدى أعلنت: كلوا صحة وعافية “أنا مُحَمّى عن الرز” !!

لا اعرف من اين حطت تلك الجملة على لساني. لقد فتح الله عليّ بها.

صرخ والد العريس: الأستاذ محمّى عن الرز يا عيال. وما هي إلا دقائق حتى وضعوا أمامي صينية مليئة بخبز الشراك المغرق باللبن وفوقها قطع كثيرة من اللحم الدسم، أكلتها كلها بشراهة لم أعهدها في نفسي.

أكلت حينها كمية تسد عن كل الأعراس التي فاتني لحم مناسفها. انتقمت من الخيبات وثأرتُ لكل المرات التي عدت فيها خائبا إلى المعلبات.

تكرر هذا الحال الدسم الجميل عرسا آخر. فما أن وضعوا المناسف ودعوني، حتى بادر احد المعازيب إلى الإعلان: الأستاذ محمّى عن الرز، هاتوا “صينية الأستاذ” يا عيال.

صار للاستاذ صينية !!

هبطت أمامي صينية مليئة بقطع اللحم الدسم، “تربّعتُ” على الأرض والتهمتها كلها.

كانت أعين عدد من المدعوين ترمقني حسدا وأنا لا أبالي، لا بل وأنا أكاد انفجر من الضحك، لقد “دبّرت راسي” !!

في العرس الذي يلي، أعلن رجلان إنهما مُحَمّيان هما أيضا عن الرز !! هاتوا “صينية الأستاذ” صرخ شقيق العريس ودعا الرجلين إلى الانضمام إلي ومشاركتي صينيتي. تبادلت معهما النظرات ونحن نوشك أن نقول “دافنينو سوا”.

تم إبطال “الحيلة البيضاء” التي فعلت فعلها اللذيذ. وصار عليّ أن ابحث عن ذريعة أخرى للتغلب على فوبيا المناسف الخانق.

اصبحت أتعمد أن أصل متأخرا، فتصل “صينية الأستاذ” المليئة باللحم الذي لا يزاحمني فيها احد !!

انتقلت عام 1967 الى مدرسة الشمّاخ التي لم اشعر بثلج الشتاء فيها على شدّته. فقد كنت قريبا من مدرسة الشوبك الزراعية. وقريبا من “عقدة” المواصلات. وكان بقربي هاتف وعيادة صحية. كما إنني أصبحت أشد بأسا.

لقد كنت طالبا في المدرسة الهاشمية الإعدادية التابعة للثقافة العسكرية والواقعة في أقصى شمال المفرق ودرست فيها الصفوف السابع والثامن والتاسع.

كنت امشي نحو 7 كيلومترات يوميا ذهابا وإيابا إلى المدرسة في الحر والقر، او امشي أحيانا نحو كيلومترين او ثلاثة إلى أقصى جنوب شرق المفرق حيث موقف سيارة الجيش التي تنقلنا الى المدرسة.

كنت اقضي عطلة الصيف المدرسية في المفرق. فكارثة حزيران تلقي بظلالها على أرواحنا وعلى علاقاتنا، فكانت الهزيمة والرد عليها، هما جدول أعمال أبناء جيلي بامتياز، كنا نشعر بالخذلان والعجز وكان علينا أن نفعل شيئا، تحاورنا ليال طويلة، ورجعنا إلى عشرات المراجع مثل كتاب ما العمل للينين والى مؤلفات ماو تسي تونغ ومذكرات غيفارا ومؤلفات محمود شيت خطاب وليدل هارت وفرونزة ومذكرات دوغول وتشرتشل ومختلف القادة السياسيين والعسكريين.

قادت هزيمة حزيران كل الأنظمة العسكرية في الاقليم، الى إطلاق مشروعها للتحرير، الا الدولة المدنية الأردنية القائمة على الشرعية الدستورية !!.

فتوزعنا على أحزاب وتنظيمات تلك المرحلة المرعبة. اختار الشقيقان يوسف وعماد ميخائيل القسوس الحزب الشيوعي. والاشقاء فخري وميشيل وجميل النمري الجبهة الديمقراطية. وفؤاد زيتاوي ومحمد النجدي جبهة النضال الشعبي. وسمير إسحق ومحمود النجدي وصلاح الداغستاني الجبهة الشعبية.

تابعت كاتبي المفضل غسان كنفاني فوجدته في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي أسستها حركة القوميين العرب عقب هزيمة عام 1967، فالتحقت بالجبهة برفقة محمود كساب، الذي سيصبح لاحقا زوج شقيقتي خديجة.

عملت في مكتب المفرق ثم لاحقا في مكتب الطفيلة إلى أن حلّت كارثة أيلول 1970.

بلغ بي التمزق ذراه، والفانتازيا قمتها. فجيشنا العظيم الذي يضم اخي علي وعمي جعفر وخالي عبدالحليم، الجيش الذي طحن عظام موشي ديان على نهر الاردن، والفدائيون الذين انخرطنا بحماسة في تنظيماتهم المسلحة، هم في مواجهة على الضفة الشرقية.

وهناك على الضفة الغربية المحتلة يقف الجيش الإسرائيلي المحتل متفرجا على دمنا، وشامتا بصراعنا، بعد وحدتنا العظيمة في موقعة الكرامة.