ذكريات و عِظات/ الحلقة السادسه… عملت معلما استمرت احد عشر عاما من البهاء والعناء والتعب

19 أبريل 2021
ذكريات و عِظات/ الحلقة السادسه… عملت معلما استمرت احد عشر عاما من البهاء والعناء والتعب

محمد داودية

وفر العمل في التعليم فرصا هائلة للمعلمين والمعلمات ليتعرفوا على بلادهم العظيمة و على ناسهم الطيبين.

لقد عملت معلما لمدة قصيرة جميلة استمرت احد عشر عاما من البهاء والعناء والتعب.

بدأتُ العمل برسالة قصيرة من عمي عبد خلف الداودية، احد الرجال الذين بنوا واشادوا وسلكوا مسالك الشرف والنزاهة والعطاء، وكان يومها مدير التربية والتعليم لمحافظة العاصمة، إلى الأستاذ ذهني رأفت، الشركسي النقي الذي قدم هو الآخر عصارة عمره ولم يتم انصافه، وتحمّل ولم يشْكُ ولم ينبس بحرف، وكان يومها موظفا كبيرا في وزارة التربية والتعليم.

جاء في الرسالة بالحرف الواحد: “أخي الأستاذ ذهني رأفت ابعث إليكم ابن عمي هذا راجيا تعيينه وستجدني إن شاء الله من الشاكرين. أخوك عبد خلف”.

أجلسني الرجل البالغ البشاشة والدماثة. تحدث عبر الهاتف ثم قال لي: اذهب إلى شؤون الموظفين واستكمل إجراءات التعيين. ثم أضاف، مبروك يا محمد. لقد أصبحت معلما،

كان ذلك يوم الخميس 18 آب عام 1966.

ومن محاسن الصدف انني عملت بمعية الأستاذ ذهني رأفت في صحيفة صوت الشعب في تشرين الثاني عام 1982 وكان حينها مديرا عاما لها.

بعد أيام من عملي في صوت الشعب ناداني ذهني الى مكتبه وقال لي: انت مطلوب لمراجعة “الدائرة”. الموضوع لا يتعلق بعملك هنا ولا بكتابة مقالتك التي احب لونها وقتاليتها “عرض حال”، الموضوع له صلة بالماضي.

ولما قلت له: أرى انك تعمقت مع “الدائرة” في موضوعي، إذْ لم تجرِ العادةُ ان يستفسر المدراء عن هكذا استدعاءات.

ابتسم وقال لي انت وطني حر، وكل ما في الأمر ان نقدك او معارضتك بناءة ومفيدة وضرورية.

زرت هذا الشركسي الجميل في منزله عندما أصبحت وزيرا للشباب عام 1996، “ففي بيته يُؤتى الحَكَم”. وسيظل له في نفسي مقام دُرّيٌ سَني بهي.

******

جاء دوامي في مدرسة سويمة الابتدائية الواقعة شمال غرب البحر الميت، في مطلع أيلول 1966 فسكنت مع المعلمين في غرفة طينية ذات سقف من القصيب تتدلى منه مروحة. لا صحف، لا هاتف، لا ثلاجة، لا تلفزيون، لا “دي في دي”، لا سيارة، لا مقاهٍ، لا سينما

لا لاب توب، لا فيسبوك لا واتس أب لا تويتر لا زووم !!

وايضا لا حظر ولا كمامات ولا مطعوم.

كان عالمي مكون من الكتب والمجلات ومذياع الترانسستور الصغير الذي كان ملاصقا لي كأنه الهاتف النقال اليوم.

كان وقتي آنذاك مليئا بالكتب التي تزيد على كتب كشك الثقافة العربية لصديقي حسن أبو علي. وتوازي ربما مكتبات خالد الكركي ونبيه شقم وسعد الدين شاهين وابراهيم العجلوني وجريس سماوي.

كانت “مُعدّاتي” تتكون حينذاك من سرير جيشي يُحدِث صريرا لا يُضبط ولا يُطاق. وفرشة ولحاف مُنجّد من الصوف ومقلى وإبريق شاي وبريموس ومكوى صغيرة والترانزسستور الذي كنت استمع منه إلى نشرات الاخبار السياسية مرة او مرتين في اليوم. والى اغاني فيروز وشادية وعبدالحليم وفريد وعبده موسى وتوفيق النمري. والى التعليقات السياسية ومضافة ابو محمود لمازن القبج والمشيني. والى البرنامج الثقافي لتيسير السبول من الاذاعة الاردنية.

والى نشرة الاخبار و برنامج “قول على قول” للإعلامي حسن الكرمي من الاذاعة البريطانية- البي بي سي. والى صوت العرب من القاهرة. وإلى أم كلثوم من إذاعة إسرائيل عصر كل يوم.

كان طلابنا في سويمة يحملون لنا في الصباح ما تيسر من المزارع التي تعمل اسرهم فيها: حبات الباذنجان والبندورة والفلفل الأخضر والكوسا والزهرة والملفوف وضمات النعنع والفجل والبصل الأخضر وخبز الشراك والزبدة البلدية والبيض البلدي.

وما أن يقرع جرس الإيذان بانتهاء دوام ظهر يوم الخميس، الذي كنت انتظره بشغف مفرط، حتى أتوجه إلى الطريق الرئيسي الواصل بين ضفتي نهر الأردن-الشريعة حيث تعمد السيد المسيح عيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام.

كنت انتظر حافلات رجب الخشمان المتهادية الينا من عمان، لأستقلها متوجها إلى أريحا. (نقيب أصحاب الباصات اليوم هو السيد عبدالرزاق الخشمان).

في اريحا المدينة الأعرق والأقدم في العالم-، أتناول وجبة الغداء المكونة من الكباب والشقف وصحن الحمص وزجاجة المشروب الغازي ماركة سحويل ب 25 قرشا.

ثم اتوجه عصرا من اريحا صعودا الى القدس بالتاكسي العمومي.

الله الله. للقدس روح ورائحة فريدة ووقع يدغدغ القلب ويبهجه. هاهنا احتفل البطل الأسطوري صلاح الدين الايوبي بتحرير القدس عام 1187م وهو يمتطي جواده متسربلا درعه وخوذته وسيفه ورمحه.

في القدس تجد التاريخ مكثفا، يمكن أن تمسكه بيديك وتضعه في عبّك لصيقا بالقلب !

كنت أتجول مدهوشا مذهولا في حواري القدس وأزقتها وأمرّ على مكتباتها ومساجدها وكنائسها وأسوارها، إلى أن تكلّ قدماي، فأجلس على المقهى أتناول الشيشة العجمي وإبريق الشاي بالنعنع، ثم أتوجه الى الفندق الذي يتناسب سعر المبيت فيه مع طبقتي وراتبي.

كنت أجد نُزلا بسعر 80 او 100 قرش في الليلة مع إفطار مناقيش بيض وزعتر وكنافة بالكعك.

زارني ميشيل النمري ومحمود كساب في سويمة، تغدينا ما قُسِم، ثم توجهنا سيرا على الاقدام إلى طريق الضفتين الرئيسي الواصل بين عمان ورام الله والقدس.

لم ننم في رام الله، سهرنا حتى الفجر. فقد كانت رام الله مقصد الأردنيين والعرب لجمال ونداوة متنزهاتها التي تعج بالرواد والمطربين والراقصات.

ولعلنا نستذكر كلنا الاغنية الشعبية التي غنتها سميرة توفيق وسلوى:

وين ع رام الله

ولفي يا مسافر

وين ع رام الله.

ما تخاف من الله

خذيت قليبي

ما تخاف من الله.

كنت اذهب إلى نابلس أو القدس أو جنين او الخليل، اتغدى كنافة، تصبح هي وجبة الغداء والتحلاية معا.

ثم اجوس المكتبات وتحديدا مكتبات الكتب المستعملة فأبتاع ما تمكنني ميزانيتي من ابتياعه.

في العطل الأسبوعية الأخرى، وكانت العطلة الأسبوعية يوم الجمعة فقط، كنت اذهب إلى المفرق حيث الأهل الذين احمل إليهم الموز الريحاوي ابو نقطة والبرتقال المكتنز بالرحيق.

لا اعرف كيف نجا أهل سويمة والأغوار الأردنية عموما، من سموم الأفاعي في تلك الحقبة المبكرة، التي كانت الأفاعي تتخذ فيها من السقوف اوكارا لها.

وقد حدث أن كنت اقرأ رواية “ذهب مع الريح” حين سمعت هسهسةً فرفعت رأسي إلى الأعلى فإذا بالأفعى تتلوى بين القصّيب. كانت تعبر البلاد موجة حر لاهبة.

قلت لنفسي: كدت تذهب مع الريح يا فتى.

نبهت رفيقي في الغرفة وسارعنا إلى مغادرتها.

بقينا طوال تلك الليلة في الخارج نسهر على ضوء حطب البلان الذي اشعلناه إلى أن طلع الفجر علينا من وراء مرتفعات عيرا ويرقا والسلط.

مر بنا قرويون يعملون في مزارع حمدو الأنيس ابو الراغب فأخبرناهم بما جرى فسخروا منا وقالوا انه كان علينا أن نملأ الغرفة دخانا !! فالأفاعي لا تحتمل رائحة الدخان التي تطردها وبعدها يمكن ان ننام ملء جفوننا.

المهم في الأمر أن شابا منهم دخل إلى الغرفة وأغلقها خلفه، غاب نحو نصف ساعة طلع بعدها باسما وفي يده أفعى يمسكها بكل هدوء من رأسها.

اقسم المعلم شريكي في الغرفة انه لن يظل في بلاد الأفاعي تلك. وفعلا ما ان اطلت علينا اول لاندروفر، تعمل على خط الأغوار – عمان، حتى رمى يطقه فيها وغادر دون ان يقول بخاطركم يا شباب !

زار مدرستنا الأستاذ احمد العقايلة مدير التربية والتعليم لمحافظة البلقاء.

كنت البس الحفاية، فطقس سويمة الغوري الحار لا يحتمل الاحذية والجرابات.

علق قائلا: بشوفك حافي يا استاذ.

قلت مازحا: لو انك تعمل هنا لعملت حافيا بالفعل.

سألني لماذا لا تذهب للتدريس في معان عند أخوالك؟

قلت له: الله و ايدك.

بعد بضعة ايام جاءني كتاب نقلي إلى معان فتلقفته بلهفة وامتنان.

******

بعد اقل من سنة، القت هزيمة حزيران 1967 على الأمة اثقالها واوزارها وخيباتها ومراراتها.

عشت تفاصيل انكسار حزيران وما تلاه من انهيار. و اتفق مع الكاتب لطفي الخولي في وصفه عام 1967 بأنه عام «الهزيمة في العالم الثالث».

في اليوم الأول صدّقت رواية «البكاش» احمد سعيد، كبير مذيعي إذاعة «صوت العرب» الذي اطلق شعار قذف اليهود في البحر قائلا «تجوّع يا سمك».

توهمت، أننا قريبا سنترك مذياع «الترانزستر» لنقف على بحر يافا المُشبع بعطر البرتقال والليمون والقوارب، واننا سنحرر فلسطين من الغزاة الصهاينة الذين شردوا اخوتي وقارفوا المذابح الوحشية في دير ياسين وكفر قاسم وقلقيلية واللد ويالو والدوايمة وقبية ويازور والبريج ونحالين وغزة وخانيونس وغيرها.

ذهلنا من الأخبار التي أصبحت تنتشر وتؤكد وقوع هزيمة ماحقة، ولم نسمع عن انطلاق صواريخ التحرير «الظافر والقاهر» !! .

هرعنا الى مخفر شرطة المفرق للتطوع، مجموعة من الأصدقاء وكنا في مطلع العشرين من اعمارنا. في المخفر وجدنا ضابط الشرطة الشاب يضع رأسه بين يديه وينتحب. رأينا الهزيمة والانكسار في عيني ضابط الشرطة الكركي الوطني.

كان مشهد الضابط المخذول مثل «فجّة» الضوء الساطع.

هوت الحقيقة على رؤوسنا ثقيلة ساحقة. انقشع عن اعيننا دجل اعلام احمد سعيد، الذي توهمناه في صواريخ «الظافر والقاهر».

*******

كانت القضية الفلسطينية في تلك الأيام قضية شخصية فردية لكل واحد منا، وكان اخوتنا اللاجئون في المفرق، من بئر السبع ويافا واللد والناصرة والجليل وحيفا، يصفون لنا الشوارع ويرسمون لنا عناوينهم في مدنهم الفلسطينية، وكنا نتوق لتحريرها وتلبية دعواتهم لزيارتهم فيها !!

كان علينا ان نجيب على سؤال متصل بدورنا: ما العمل؟

نُخبُ الشعب الفلسطيني، اجتذبتها نماذجُ حركات التحرر الوطني العالمية، التي قاتلت الاستعمار وحققت النصر، في أمريكا اللاتينية وآسيا وافريقيا: الجزائر، الصين، كوبا، فيتنام، لاوس، كمبوديا، تشيلي والكونغو.

واخذت الاحزاب والتنظيمات السياسية الفلسطينية تنشيء تنظيمات عسكرية ميليشياوية، معتمدة صيغة حرب التحرير الشعبية، فأسست الانتلجنسيا الفلسطينية في الكويت والخليج العربي، حركةَ فتح بقيادة ياسر عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف. وأنشأت حركةُ القوميين العرب “الجبهةَ الشعبية لتحرير فلسطين” بقيادة جورج حبش ونايف حواتمة ووديع حداد، التي انشقت عنها الجبهة الديمقراطية بقيادة نايف حواتمة. والقيادة العامة بقيادة احمد جبريل.

وأنشأ صبحي غوشة وبهجت ابو غربية وسمير غوشة “جبهةَ النضال الشعبي الفلسطيني”.

وأنشأ حزب البعث الحاكم في سوريا “قوات الصاعقة”. وأنشأ حزب البعث الحاكم في العراق “جبهة التحرير العربية” وأنشأ الحزب الشيوعي الأردني “قوات الأنصار”. ودخل على الخط النظامان الناصري والقذافي وغيرهما.

كان على الشباب العربي والأردني بوجه خاص، ان يبحث عن خشبة الخلاص وعن طريق الكرامة الوطنية والقومية، وان يرد على الهزيمتين المذلتين 1948 و 1967.

لقد لحق بنا الذل.

وكان المتاح امام الشباب الاردني الغاضب الساخط على الانظمة العربية كافة، هو التوجه الى التنظيمات الموجودة على “الساحة” الاردنية: فتح، الجبهة الشعبية، الجبهة الديمقراطية، الصاعقة، جبهة التحرير العربية، الأنصار، النضال الشعبي وغيرها من المنظمات.

******

لقد عشت تجربة حركة المقاومة الفلسطينية والعربية بكل تفاصيلها في الأردن.

وعشت ايلول 1970 شاهد عيان. فقد كان عمري 23 عاما.

نُشِرت عشرات الدراسات وعُقدت ندوات ومؤتمرات ومحاضرات لا تحصى حول ايلول ال 70.

ولما حاولت أن اكتب واقدم مطالعتي حول ما حصل، بعد مرور نحو نصف قرن على الاحداث، شاورت فنصحني اصدقاء ان اكتب لأنه “يجب ان تكتمل الرواية من افواه واقلام كل من له قول ورأي في المسألة”.

ونصحني اصدقاء غيرهم محبون وازنون “ان لا انكأ الجراح، فتلك صفحة قد طويت ولن تتكرر. ودروسها -التي تماثل دروس المقاومة الفلسطينية في لبنان- تم استيعابها !!.

لقد أجّلت -ولا اقول الغيت- الكتابة في هذه المسألة شديدة الأهمية واظنني لا ابحث الآن عن ادانات، بل ابحث عن عِظات.