ذكريات و عِظات / الحلقة الخامسة…المعلمة الراحلة “نجوى النجدي” تستحق الانصاف

17 أبريل 2021
ذكريات و عِظات / الحلقة الخامسة…المعلمة الراحلة “نجوى النجدي” تستحق الانصاف

محمد داودية

* كان المعلمُ والدا ومربّيا وطبيبا وطبّاخا وقنّاصا.

* مأثرة المعلمة الراحلة نجوى النجدي تستحق الانصاف. 

كان ثلج الشوبك الكثيف مفاجئا وصاعقا بالنسبة لي، أنا الذي ولدت في بادية الشام في الإجفور على الحدود العراقية الأردنية، وعشت معظم سنيّ عمري في المفرق ومعان الصحراويتين.

لم تكن لي خبرة في التعامل مع الثلج. فأنا ابن الغبار والسراب والهجير واللظى والمدى البني الصحراوي.

****

تواصل الهطلُ متقطعا لمدة شهرين تقريبا، في قرية بير ابو العلق بالشوبك. فأصبحت في عزلة عن العالم ومعي العجوز العمشاء والطلاب الأطفال العشرة، الذين كانوا يقضون معظم نهارهم في غرفتي، يدرسون وينجزون الواجبات المدرسية ويشربون الحليب الساخن المضاعف التحلية عندما يريدون. ويتناولون المربّى “التطلي” عندما يريدون. وكانت صوبة البواري تجعل وجوههم حمراء كحبات الشمندر.

كانت غرفتي مليئة بالمواد التموينية التي تبرعت بها هيئات اغاثة دولية لمدارس القرى النائية الاردنية. حاولت أن أطهو لطلابي الأرز والفاصوليا البيضاء والبازيلاء والحمص والعدس الحب، وضعتها كلها في الطنجرة الكبيرة وسكبت عليها ماءا ورششت عليها الملح وذريرات الفلفل الأسود وتركتها نحو ساعة على نار البريموس.

صُدِمنا أنا وطلابي عندما سكبنا مزيج الحبوب المطبوخة في صينية كبيرة وأخذنا نتغدى.

لم ينضج من المزيج إلا الأرز ! فقد ظلت باقي أصناف الحبوب على قساوتها وصلابتها.

ولاحقا عندما أخبرت والدتي بما جرى، قالت لي مبتسمة: كان يجب أن تنقع الحبوب بالماء عدة ساعات قبل طبخها.

المهم أنني عوّضت ذلك بأن فتحت عدة علب سردين و تونا وقليت عددا من البيضات البلديات بالسمن البلدي غمسناها بخبز القمح البلدي.

هاهنا في هذا الجنوب المؤابي الادومي الأنباطي تتكثف الوحدة والعزلة والصقيع والعيش البدائي والشح والندرة.

لكنها كانت اشهى وجبة واكثر صحبة نقاوة وبراءة.

مر شتاء عام 1966 قاسيا عليّ، فقد كنت في غربتي الأولى بعيدا عن أهلي في المفرق مئات الكيلومترات. وبعيدا عن الطريق العام الذي يخترق قرية بير الدباغات، القرية المجاورة التي تقع على بعد خمسة كيلومترات.

أخذت أخطط لمغادرة “القماط” الحديدي الذي أنا فيه. قمت بجولات مكوكية على المعلمين في القرى المجاورة. اغتنمت صحو السماء وترافقت مع قروي عابر سبيل وذهبت ظهر يوم خميس إلى بئر الدباغات. هناك التقيت بالمعلم محمد الملكاوي الذي كان منفردا هو الآخر.

استضافني الملكاوي وأمضينا الليل في الثرثرة التي كان كلانا محروما منها. وفي الصباح توجهنا الى الدكان القريبة التي تقع على الطريق الواصل بين الشوبك ووادي موسى.

كان في الدكان شعبة بريد وهاتف عمومي، فقررت الإتصال منه مع الأهل، لأكتشف انه لا يوجد هاتف في كل حارة المعانية التي نسكن فيها في بلدة المفرق.

تقع قرية بير الدباغات وسط غابة كثيفة الاشجار يسميها القرويون “الهيشي”.

اتفقت مع المعلم الملكاوي ان أسكن معه في بير الدباغات، التي فيها رفاهية كبيرة: دكان وهاتف وطريق نافذ !

نقلت “يطقي” المكون من فرشة ولحاف وطنجرة ومقلى وصحنين والكثير من الكتب، على بغل أحد القرويين.

سكنت في الدباغات ثلاثة شهور، إلى أن جاءت العطلة الصيفية. كنت تحت رقابة مشددة من الله و من ضميري. امشي كل يوم نحو 10 كيلومترات بين “البيرين” بير الدباغات وبير ابو العلق ذهابا وايابا، دون كلل أو تذمر، لأكون في الوقت المناسب مع طلابي في المدرسة.

مارست أجمل وأكمل وأمتع رياضة يمكن أن تتاح لإنسان. ترتب على ذلك الماراثون اليومي أن تركت التدخين !

فقد كنت أتنفس رحيقا وربيعا وطبيعة تأسر الألباب، كنت أمر في طريقي على أفعى متكورة، لم يتحرك دمها البارد بعد، اتحسس مسدسي لكنني لا أدوسها ولا اقتلها.

وكنت المح “أبو الحصيني” فأوشك أن ادعوه إلى الغداء. مستذكرا ذئب الفرزدق حين خاطبه قائلا:

تعـشّ فإن عاهدتني لا تخـونني،

نكن مثل من يا ذئب يصطحبان.

وحصل أن صادفت قرويا، يمشي وئيدا بتثاقل شديد ويده تمسك خاصرته. فلما سألته عمّا به، شكا لي مرّ الشكوى من الكلى.

وصفت له ماء الشعير المغلي الذي طلبت منه أن يشربه على الريق قبل النوم يوميا.

زارني الرجل بعد نحو شهر وهو يصيح: الله يبيض وجهك يا الطفيلي، ما ظل بيّ وجع، طبت طبت، الله يجزاك الخير.

ولم تكن يده فارغة.

كان “يقط طليا سمينا” (بالعربي يسوق خروفا سمينا)! اولمته لرهط المعلمين الذين التهموه كأنهم لم يأكلوا لحما منذ قرن !

كان المعلم طبيبا أيضا.

أصبحنا اسرة منسجمة، نتزاور ونلتقي عندي في البير أو عند الملكاوي في الدباغات أو عند مأمور العيادة عدنان خليل آل خطاب في بير خداد أو عند محمد موسى النعانعة في الشمّاخ أو عند أمين الصغيّر في حوالة.

كنا نتبادل الكتب والمجلات والآراء السياسية. نتحدث عن عبد الناصر وكاسترو وغيفارا وهيكل وخروتشوف وكندي وجونسو وغاغارين والاتحاد السوفياتي وأميركا وإسرائيل.

ونستمع من الساعة الرابعة الى الخامسة عصر كل يوم الى ام كلثوم على اذاعة اسرائيل.

والغريب أن المرأة بكل جمالها وجلالها، لم تتخلل أحاديثنا، رغم أننا كنا مجتمع عزابية خشنا وعرا جافا.

كانت المرأة بالنسبة لنا، مخلوقة فضائية، موجودة فقط في القصائد والروايات. يهبط القلب لرؤيتها في الدورات التربوية. أو في اللقاء الشهري في البنك لاستلام الراتب. أو في سرفيس معان-عمان أخر كل شهر.

لقد تمكنت من كسر حاجز العزلة وحصار الثلوج ولعنة “المعلم المنفرد”.

وبالقدر الذي كنت فيه سعيدا لخروجي من ذلك القفص الفولاذي، كان الحزن طافحا وغير مسيطَر عليه، على وجوه طلابي.

لقد خذلتهم حين غادرت حوزتهم.

كل ذلك العناء والضناء والشقاء، براتب شهري مقداره 20 دينارا و18 قرشا، كنت أوزعه على النحو التالي: 6 دنانير للاهل. ديناران للوالدة. ديناران قسط المسدس. دينار قسط بنطلوني الهيلد الإنجليزي. وباقي الراتب لشراء الكتب والأكل والشرب والكساء والغذاء والمواصلات.

*****

المعلمون بلا منازع، هم روح الأردن، توغلوا في بقاع الوطن واقتحموا أكثر الحواجز شدة وبأسا، ما تركوا بقعة لم يكافحوا من اجل إنارتها وبث البصيرة والإشعاع والحروف فيها.

وإذا كان هذا العناء هو ما واجهه المعلمون آنذاك، فماذا أُحدّث عن بناتنا المعلمات اللواتي اجترحن المآثر وعشن حياة لا تدانى في شظفها وقسوتها.

واذكر أن دولتنا أدركت ان العمل في الجنوب، الذي كان سابقا منفى السياسيين الأردنيين، يستحق علاوة للمعلمات، كانت تسمى علاوة الجنوب ومقدارها 5 دنانير، أي نحو 25% من الراتب الشهري.

تلك العلاوة التي أرجو أنها ما تزال تصرف لمعلماتنا في السلع وبصيرا والقادسية والزبيرية والشماخ وبير مذكور وبير أبو دنة والصافي ورحمة والجفر وباير وغيرها من القرى التي تمتاز بحدة طقسها وقسوة ظروف العيش فيها.

لقد نبه الملك الى ضرورة حل معضلة نقص التدفئة في مدارسنا، التي كانت صفوفها “فريزرات” لا يمكن لمخلوق سوى الاسكيمو البقاء في صقيعها لدقائق. وهو ما دفعني إلى نقل مقاعد التدريس “الرحالي” من الغرفة مكسورة الزجاج، إلى غرفتي المزودة بالصوبة لأعطي الدروس فيها، رحمة بالطلاب ورحمة بي أيضا.

وان مأثرة المعلمة نجوى النجدي لتستحق ان تحظى بالكثير من الأضواء، لمعرفة كيف واجه المعلمون التحديات وكيف حلّوها. وهي المأثرة التي سأذكر تفاصيلها لاحقا. لأنّ فيها عبرا ودروسا بسيطة عميقة.

*******

يقال لأي دبلوماسي في العالم: اذا كنت تعمل من الساعة التاسعة صباحا حتى الساعة الخامسة مساءا، فأنت موظف ملتزم مواظب.

واذا كان العمل همّك، وساعاته بلا عداد، فأنت دبلوماسي ناجح من حقك ان تمثّل بلادك.

لقد قامت بلادنا العظيمة على التضحيات العِظام. وعلى نكران الذات. وعلى العطاء لا على الأخذ. على اتقان العمل لا على عدد ساعاته.

لم يكن الآباءُ موظفين يعدّون ساعات العمل. ولم يكن عليهم من رقيب غير الله والضمير.

******

احدى قضايا خلاف الملك عبد الله مع عدد من الانظمة الرسمية العربية هي موقفه المختلف المتمايز من قضية جماعة الاخوان المسلمين.

لم يوافق الملك على شيطنة الجماعة وتصنيفها جماعة إرهابية، كما فعلت هيئة كبار العلماء في السعودية التي اعتبرتها “جماعة إرهابية لا تمثل نهج الإسلام” ووصفتها بالجماعة المنحرفة التي “تخرج على الحكام وتثير الفتن وتتستر بالدين وتمارس العنف والإرهاب من أجل خدمة “أهدافها الحزبية المخالفة لتعاليم الدين”.

اختط الملك موقفا مختلفا واعتمد مقاربة منسجمة و علاقة التحالف التقليدية مع الجماعة التي ارساها الملك الحسين يرحمه الله ويحسن اليه.

تمثل الموقف الرسمي في “إضعاف” الجماعة والارتياح للانشقاقات في صفوفها ولم يلجأ الى اعتبار حزبها، حزب جبهة العمل الإسلامي، حزبا محظورا.

ومعلوم ان موقف الجماعة من الملك أبّان الربيع العربي لم يكن موقف رد الجميل !!.

بل كان موقفا مستقويا بمخرجات ميدان التحرير المصري.

لقد حملت الجماعة اليافطة المصرية مرة ثانية.

كانت الاولى اعتماد واستيراد الشعار الإنتخابي المصري سنة 1989 “الاسلام هو الحل”.

وسيظل موقف الجماعة إبّان الربيع العربي اشارة حمراء فارقة، تدعو الى استمرار الحذر والتوجس.

******

ينتقدني واحيانا يهاجم شخصي عدد من السياسيين “الجذريين” !! ويطلقون علي اوصافا ونعوتا لا أعرف ما هي، لأنني لا التفت اليها.

ظل موقفي واضحا اعبر عنه بالكتابة التي لا تُمحى ويمكن العودة اليها في كل حين.

وهو موقف ثابت ممتد منذ اكثر من 30 عاما.

كنت معارِضا بشدّة و حِدة، للنظام الملكي لصالح الأنظمة الثورية !! والذي حصل ان الله هداني وبطلت. والحمد لله انني بدلت وغيرت.

فلم يعد لتلك الصيغ الدكتاتورية اي قبول. فقد كانت صيغ اجتثاث دموية متوحشة. كانت تُسمي المعارِض “عدو الحزب والثورة والشعب”.

لاحظوا ان اسم المعارض كان عدو. والعدو يجب بالطبع قتاله وقتله.

لو انني كنت في حزب الذي ينتقد موقفي او يهاجم شخصي، وخذلته او انشققت عنه او سلمت خلاياه الثورية السرية. او بلّغت على مرابض مغاويره وفصائله المسلحة المقاتلة التي في الجبال، لحقّ له ان يطلق علي النعوت التي يريد.

لا اتحدث عن المعارضة الدستورية.

ولا عن الحراك الراشد الذي اعدم الفساد سياسيا على حد وصف مازن الساكت.

ولا عن المحترمين

اتحدث عن ظاهرة التخزين والتكفير والاتهامية المجانية من الذين يهاجموننا لأننا طلاّبو وزارات ومواقع ومناصب !!

ونأخذ على هذاةالنوع من الخصومة انه يخلو من الرفعة وانها شخصية تطلق “احكام قيمة” لا غير !!

والتطلع الى المنصب حق لكل مجتهد و لا اظن ان من يعايرنا بالتطلع الى المنصب سيعرض عنه لو عرض عليه. اذ لا توجد عذراء في جناح الولادة، حسب المثل الكاميرون.

ومن لا يعرف يجب ان يعرف ان المهووسين كانوا يجلسون ويختلفون ويحتدون في 2012 وهم يتقاسمون الوزارات والمناصب والفلل الجميلة والسيارات الفارهة والمولات في عمان الغربية، لأن “النظام انتهى ومروّح وهو يحزم حقائبه”.

ومعي شهود عندما “بشّرني” عدد من الشباب بتعييني رئيسا للمجلس الانتقالي !! كان ذلك أواخر عام 2012 في فورة الربيع العربي !!

كان ردي الفوري ضحكة ساخرة ونصيحة. قلت لهم: لا في مجلس. ولا في انتقال. ولا في رئيس. في مملكة وملك ونظام قوي وشعب راشد.

وقلت حازما: حتى لو حُشرنا وخُيّرنا بين الإستبداد والفوضى، فلا يوجد عاقل يختار الفوضى مهما كانت الظروف والأحوال. واضفت: سندافع بكل طاقاتنا كي لا تحل كارثة الفوضى، التي تحمل ابشع صور الإستبداد.