إلى أي مدى يمكن أن يتصالح المتصلبون ايديولوجيا مع الداعين إلى العملانية والبراغماتية” ؟؟

6 أبريل 2021
إلى أي مدى يمكن أن يتصالح المتصلبون ايديولوجيا مع الداعين إلى العملانية والبراغماتية” ؟؟

الدكتور صالح نصيرات

أرجو المعذرة على وضع بعض المفردات الانجليزية لأنها ذات حمولة ثقافية خاصة

هذا سؤال موجه لكل أصحاب الأفكار بغض النظر عن توجهاتها الفلسفية والدينية. وسأعرض بعض الافكار حول هذا الموضوع مبتدأ بتعريف بالفلسفة البراغماتية أو العملانية.

البراغماتية فلسفة حديثة نسبيا بدأت مع المفكر الأمريكي تشارلز بيرس وطورها كل من وليم جيمس وجون ديوي، وملخصها أن صحة الافكار تقاس بآثارها ونتائجها كذلك كما يقول وليم جيمس«فالفكرة صادقة عندما تكون مفيدة. ومعنى ذلك أن النفع والضرر هما اللذان يحددان الأخذ بفكرة ما أو رفضها». وقد طور مفكرون كثر هذه الفلسفة واضافوا إليها افكارا مهمة . ولابد من الاعتراف بأنني قرأت جون ديوي بالانجليزية وأعجبت بكثير مما طرحه، ولكنني أعجبت أكثر بطريقته في جعل الفلسفة طريقة ومنهجا في التفكير أكثر من مجرد أفكار مجردة.
و يطلق على البراغماتية أيضا الذرائعية و العملانية. والمقصود هو هل يمكن أن يتخلى الفرد عن الافكار و المبادىء التي يؤمن بها إذا ثبت فشلها أو أنه يبرر الفشل بظروف سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية؟

يبدو لي أن عامة أصحاب الايديولوجيات يعتقدون بالمطلق لأفكارهم، مع أنها ليست أكثر من مجرد اجتهادات بشرية.
عادة نجد أن أصحاب الأيديولوجيات من الدوغمائيين (المتعصبون و الجامدون فكريا) لايؤمنون بالعملانية، فهم دوما يطلقون على معتقداتهم الفكرية و الفلسفية أوصافا تتسم بالكمال و الشمول والصحة. ولذلك في عالمنا العربي فشل الماركسيون في دعواتهم الاشتراكية، والقوميون في بناء دولة الوحدة، والإسلاميون في الوصول إلى تحقيق أهدافهم في بناء دولة إسلامية رغم مرور مايقرب من قرن على جهودهم .

وعندما يحاول فرد أو فئة الانحياز إلى الجانب العملي و الواقعي يصبح غرضا لسهام الناقدين. فهو “مرتد” عن الأصل، أي الفكر المقدس للمفكر الأول (ماركس أو عفلق أو البنا) وواقع تحت تأثير الواقع ومستسلم له، ولذلك بقيت كثير من الأفكار الواقعية في صدور أصحابها ولم يستطع هؤلاء رفع أصواتهم للمطالبة بالنظرة الواقعية والتحلل من الاجتهادات المتأثرة بواقع ظرفي معين في تلك الايديولوجيات بتايثر من الخوف من الاتهام، والذين خرقوا حوجز التقليد وجدوا أنفسهم خارج السرب و التنظيم واصبحوا منبوذين في تنظيماتهم وأحزابهم.

والسؤال المهم هو إلى اي مدى يمكن حل الإشكال بين الفريقين؟ العملاني و المتصلب الأيديولوجي؟

أعتقد أن من المهم النظر في الإشكالية التي يتعامل معها الفكر الماركسي أو القومي أو الإسلامي وحتى الليبرالي. حيث بعد توصيف مستوى التعقيد في المشكلة سينكشف لنا مستوى التفكير في حلها.

إذ يمكن القول بأن عامة الايديولوجيين ينظرون إلى المشكلات الاجتماعية والاقتصادية نظرة مبسطة وساذجة، لأنهم يعتقدون بأنهم يملكون حلولا سحرية جاهزة، تتجاوز الواقع والظروف . ولذلك عند الإسلاميين خاصة والمؤدلجين عامة نجد أنهم يعتقدون بأن “كبسة زر” أي انقلاب عسكري أو الانتصار في انتخابات رئاسية كافية لحل المشكلات، وأن المشكلة ليست في ما يحملون من أفكار بل في الشعوب و الأنظمة المستبدة. وهذا عين الخطأ. فالأمم التي ارتقت في حياتها علميا وصناعيا وحتى أخلاقيا – بالمفهوم الواسع للأخلاق- أنتجت فكرا جديدا ونظرت إلى مشكلاتها بنظرة واقعية، اي أنها آمنت بأن تراكم المشكلات لا يحل بفكرة مجردة، جاء بها ملهم من الفلاسفة أو المفكرين، بل إن التعقيد كبير، وهذا يعني أنه لابد من التفكير بمستوى المشكلة. وهذا تنبه إليه المفكر الإسلامي طارق رمضان في عدد من كتبه. حيث يعتقد بأن الفكر الإسلامي الحديث في مجمله تبسيطي وليس فيه المستوى الكافي من التركيب ليواجه مشكلاتنا المركبة و المعقدة.

وقد قصدت وضع المصطلحين بالانجليزية لأن كلمة تعقيد و كثيرا ما تتضمن فهما سلبيا لها. Sophistication not complication

ولابد من التنويه أنه خلال قرنين من الزمن ظهرت عشرات المدارس الفلسفية والفكرية التي نظّرت للحياة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية، تعامل معها أصحابها بمستوى عال من الحوار والنقد، ولم نشهد مشانق تعلق أو سجونا تبنى أكثر من المدارس ولا تكفيرا للآخر،

وفي عالمنا العربي لم تظهر مدارس فلسفية أو فكرية ذات بال يمكن التعويل عليها لبناء قاعدة فكرية للتغيير المنشود. فالمدارس الفكرية في عالمنا العربي إما أنها تطوير بسيط جدا لبعض الأفكار المتوارثة، أو تبن كامل للفلسفات الغربية دون اعتبار لخصوصية المجتمع وظروفه.

لقد أعجبت بإجابة على سؤال حول تعقيد الحياة في أمريكا من داعية محترمة عاشت فترة طويلة في الغرب عن مستوى التعقيد في الحياة الغربية فقالت إن بساطة الحياة تكمن في تعقيدها. وهي جملة بعيدة الغور، تنبىء عن فهم كبير لذلك الواقع. فالقانون الأمريكي والسياسات الداخلية و الخارجية وحتى الإجرءات اليومية تبدو معقدة على الورق، ولكنها إجرائيا سهلة وميسرة ولا تعقيد فيها. فالجانب العملي يعني أن الأفكار المعقدة يجب أن تتحول إلى إجراءات ميسرة يعرفها كل من عاش هناك وتعامل مع الإداريين و البيروقراطيين..

وفي عالمنا العربي نجد القوانين والتعليمات – بشكل عام -سهلة ومبسطة في حين أن الإجرءات معقدة وليست في متناول اليد. وهذا لايعود فقط إلى السلوكيات التي أخذت في الابتعاد عن الأخلاق العملية كثيرا بل أيضا إلى النظام البيروقراطي العقيم و الإدارة المركزية الفاشلة.

ولهذا فإن السؤال هل يمكن تحقيق أهداف كبيرة في مستوى بناء الدولة من خلال شعارات فضفاضة أو الاتكاء على بنية سياسية تبدأ من أعلى إلى أسفل؟ يقول المنظرون الأمريكيون عن السياسة جملة مهمة

السياسة تبدأ من النطاق المحلي فصاعدا إلى المستوى الوطني. All politics are local

ولذلك فإن ما حصل في العالم العربي هو العكس. حيث نجحت الانقلابات العسكرية في تدمير المجتمعات العربية وفشلت الانتخابات حتى النزيهة- والنادرة جدا – والتي جرت في ظروف سيطرة قوى عميقة على المجتمع وأجواء التغيير وتشكيل الرأي العام وعدم القدرة على تقديم رؤية مقنعة للآخر. فكانت النتيجة فشل على كل الصعد والمجالات بشكل من الصعب إنكاره.