وطنا اليوم – رصد – ضمن قرائته لموازين القوى في منطقة شرق حوض البحر المتوسط، يتساءل معهد دراسات الأمن القومي في إسرائيل إن كانت المفاوضات البحرية بين مصر وتركيا مناورة تكتيكية أم استراتيجية شاملة؟ موضحا أن قبرص وإسرائيل ومصر اكتشفت حقول غاز كبيرة متاخمة لشواطئها على مدى العقد الماضي، وتستند مطالباتها بالحقول على اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، والتي تعطي للجزر نفس الحقوق من المياه الإقليمية والمنطقة الاقتصادية الخالصة.
من هنا يستنتج “المعهد” أن الجزر اليونانية تحد من حقوق تركيا البحرية بشكل كبير مما دفعها لرفض الاتفاقية والإصرار على أن الجزر ليس لها منطقة اقتصادية خالصة. ويستذكر أنه في الفاتح من مارس/ آذار الجاري ذكرت وسائل إعلام تركية أن تنقيب مصر عن النفط والغاز في شرق البحر المتوسط لن ينتهك المطالبات البحرية التركية.
كذلك في الثالث من مارس/ آذار، أشاد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو بمصر “لاحترامها الجرف القاري الخاص بتركيا في شرق البحر المتوسط” وبالتالي الاعتراف بحقوق أنقرة البحرية. وأفادت وسائل الإعلام التركية أن أنقرة قد تتفاوض على اتفاق لترسيم الحدود البحرية مع مصر، وشعرت أثينا بعدم الارتياح تجاه التلميحات عن اعتراف مصر بالمطالب التركية.
ويشار إلى أن مصر كانت قد وقعت مع اليونان صفقة جزئية لترسيم الحدود البحرية بينهما في أغسطس/ آب 2020، وبعد تقارير صحافية تركية أكدت مصادر مصرية أن اليونان وقبرص ستكونان ضمن أي مفاوضات بحرية مصرية مع تركيا. كما أفادت الصحافة المصرية بأن الرئيس عبدالفتاح السيسي اتصل برئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس للتأكيد على “العلاقات الثنائية الوثيقة” والتزامه بالتعاون في مجالات الطاقة والاقتصاد والدفاع والأمن.
مصر واليونان
وفي 8 مارس/ آذار، أصدر وزيرا خارجية مصر واليونان خريطة جديدة للتنقيب عن النفط والغاز في مصر تتجاهل مطالبات تركيا. وبرأي المعهد الإسرائيلي لدى مصر عوامل مختلفة تؤثر على علاقاتها مع شركائها في شرق البحر الأبيض المتوسط.
ويقول إنه عندما أطاح الجيش المصري بحكومة الرئيس محمد مرسي، أصبح أردوغان من أشد منتقدي نظام السيسي وإنه علاوة على ذلك، ترى القاهرة في دعم أنقرة للإسلاميين تهديدًا وجوديًا، وبالمثل، فقد دعمت أنقرة والقاهرة أطرافًا متعارضة في الحرب الأهلية الليبية.
ويشير المعهد إلى أن تركيا تستند في بعض مطالباتها البحرية إلى اتفاق وقعته في عام 2019 مع حكومة الوفاق الوطني الليبية “الإسلامية” وهو ما تعارضه مصر بشدة، منوها إلى أن مصر كانت أيضًا نصيرًا قويًا للتحالفات المناهضة لتركيا في المنطقة ويقول إنه عام 2019، شكلت اليونان وقبرص وإسرائيل والأردن والسلطة الفلسطينية وإيطاليا منتدى غاز شرق المتوسط، ومقره مصر، وتم استبعاد تركيا بشكل واضح من المنتدى، بالإضافة إلى ذلك زادت إسرائيل واليونان وقبرص ومصر من تعاونهم الأمني.
ومع ذلك، هناك ثلاثة أسباب على الأقل قد تجعل المرء يشكك في التزام مصر بالتوجهات الجيوسياسية الحالية وفق رؤية معهد دراسات الأمن القومي: أولاً، تشير تقارير إلى محاولات للتقارب بين السعودية والإمارات ومصر من جهة وأنقرة من جهة أخرى، حيث يشعر قادة هذه الدول بالقلق بشأن علاقتهم بإدارة بايدن وبالرغم أن هذه الدول لا تزال متشككة. ثانيًا، ترتبط الكتلة المناهضة لتركيا في شرق البحر المتوسط بتحالفات غربية، لكن القاهرة أظهرت مؤخرًا خطًا مستقلًا ففي نوفمبر/ تشرين الثاني، اشتركت مصر مع روسيا في أول تدريب مشترك لها في البحر الأسود وتخطط لشراء مقاتلات روسية من طراز “سوخوي-35″، بالرغم من تهديد الولايات المتحدة بفرض عقوبات.
ويرجح المعهد أن مصر تواصل مع روسيا محاولة للتغلب على تركيا وليس انحرافًا عن الغرب وأنه من المفارقات أن مصر قد تواجه مصيرًا مشابهًا لتركيا، التي أدت شرائها لمنظومة الدفاع الجوي الروسية “إس-400” إلى توتر علاقتها بواشنطن. ثالثًا، لا تتوافق مصالح مصر تمامًا مع أثينا ونيقوسيا في جميع جوانب استغلال الطاقة فبموجب اتفاق مع تركيا، ستحصل مصر على حقوق المياه التي تطالب بها قبرص واليونان حاليًا. بالإضافة لذلك خططت إسرائيل وقبرص واليونان (بدون مصر) لإنشاء خط أنابيب تحت البحر يمتد من قبرص إلى إيطاليا.
الاعتبارات التركية
وبالرغم أنه من غير المرجح أن تتغير سياسات مصر، إلا أن هذه الحقائق برأي “المعهد” تساعد الاستراتيجية التركية وحتى وقت قريب، كانت تركيا تعتمد بشكل شبه حصري على أسطولها البحري لفرض مطالبها. وقد تصدت السفن التركية لسفن استكشاف يونانية وقامت بحماية ذاتها في رحلاتها الاستكشافية في المياه التي ترى قبرص واليونان أنها تابعة لها. ومع ذلك، فقد وحدت هذه الاستراتيجية إسرائيل مع اليونان وقبرص وربطتهما بشكل وثيق مع فرنسا وإيطاليا ومصر.
ويضيف “مع دمج الصفقات المتشابكة بين هذه الدول في كتلة متماسكة مناهضة لتركيا، اضطر أردوغان أخيرًا إلى معالجة عزلة تركيا في المنطقة”.
ويقول المعهد إن تشكيل كتلة موحدة مناهضة لتركيا بدعم غربي قوي يمكن أن يتركها خارج النظام الاقتصادي الناشئ دون قدرة على اللجوء للخيار العسكري وبالتالي، لن تجني تركيا أي فائدة من الغاز المكتشف حديثًا في شرق البحر المتوسط.
ويرى أنه لمنع مثل هذه النتيجة، ابتعدت تركيا على مدى الأشهر الخمسة الماضية عن الاستراتيجية التي تعتمد فقط على المواجهة وبدلاً من ذلك، تركزت على الأقل بإثارة الشكوك داخل الكتلة المناهضة لتركيا، مستذكرا أنه في أكتوبر/ تشرين الأول، طرحت أنقرة التقارب مع القاهرة، وقد تسارعت هذه الاستراتيجية مع الهزيمة الانتخابية للرئيس دونالد ترامب الذي كان أردوغان يعتمد بشدة على علاقته الوثيقة به وعلى النقيض من ذلك، من غير المرجح أن يقدم الرئيس جو بايدن تنازلات كبيرة لأنقرة. كما يستذكر محاولة أنقرة منذ نوفمبر/ تشرين الثاني، بشكل متزايد كسر وحدة الدول التي تصطف ضدها وبعد التواصل الأخير مع إسرائيل، يبدو أن تركيا حددت مصر كهدف دبلوماسي محتمل.
وينوه المعهد الإسرائيلي إلى أنه لا يزال التوتر بين القاهرة وأنقرة مرتفعًا، وربما يكون لدى مصر صعوبة في التخلي عن شركائها الناطقين باليونانية لصالح تركيا. ومع ذلك، بالنظر إلى سياسة مصر الخارجية المستقلة بشكل متزايد، فإن تطمينات السيسي لن تمحو تمامًا الشكوك حول مصداقيته في أثينا. ومن المعروف أن خطوط أنابيب الغاز باهظة الثمن كما أنها تربط الدول ببعضها البعض بطرق يصعب تفكيكها وربما تكون التقارير الصحافية التركية الأخيرة قد قوضّت بعض الثقة الضرورية حول مثل هذه المشاريع.
ويخلص معهد دراسات الأمن القومي للقول إنه يتعين على صانعي السياسة مراقبة المؤشرات الأخرى على أن سياسات القاهرة تتطور بالفعل. ويتابع “ومع ذلك، من المرجح أن تنجح الاستراتيجية التركية من خلال زرع حالة من عدم اليقين بين خصومها، مما يعقد جهدًا موحدًا لاستغلال حقول الغاز وحمايتها. ويبدو أن أنقرة أدركت أن هذه الاستراتيجية يمكن أن تكون فعالة مثل تلك التي تعتمد فقط على القوة البحرية، ومن المرجح أن تتبنى تركيا هذا النهج بشكل متزايد في المستقبل”
