“من استعجل…”

16 مارس 2021
“من استعجل…”

بقلم زهدي جانبك
من استعجل الشيء قبل أوانه، عوقب بحرمانه.
المتابع لكافة انشطتنا السياسية، والاقتصادية ، والاجتماعية ، يجد بوضوح اننا تاثرنا بدرجة كبيرة جدا بالحركة السريعة للتطورات العلمية، واسقطناها على كافة المجالات الأخرى على أمل ان نحقق نفس الدرجة من سرعة التطور، وهنا كان الخطأ القاتل لان اغلب مشاريعنا خرجت غير ناضجة نتيجة دخولها في السباق نحو الضوء.
اولا:
منظومة القيم الاجتماعية ، وما أصابها من أذى نتيجة الاستعجال وعدم القناعة.
بوجود ثورة الاتصالات، أصبح الكل على اطلاع، أو قادر على الاطلاع على أوضاع المجتمع المحلي، والمجتمعات الدولية ، بكافة طبقاتها.
أصبح خريج الجامعه بالأمس يقارن نفسه بموظف مضى على عمله (في القطاع العام أو الخاص) اكثر من ثلاثين سنة، ويريد ان يكون مثله ويتمتع بكافة امتيازاته الآن Now, هذه المقارنة الظالمة لكليهما تدفع الشاب باتجاهات سلبية اسوأها السعي نحو الأثراء السريع، أو المشاريع السريعة ذات الكسب السريع، أو السعي الى هدم ما بناه الآخر تحت تأثير كلمة حق تتمثل بالعدالة والمساواة، ولكن كلمة الحق هذه غالبا ما ينتج عنها، أو يراد بها باطل.
وبكل الأحوال، فإن النتيجة الحتمية، أو الطبيعية لهذا التوجه يعزز قيمة اجتماعية واحدة فقط، الا وهي سمو الدولار على اي قيمة أخرى.
ويتعزز ذلك ، بمقولة مثل (معك قرش… بتسوى قرش).
النتيجة:
سعي حثيث لتحصيل المال على حساب اي قيمة مجتمعية أخرى. ولذلك نرى انتشارا هائلا للمخدرات، وتجارة الممنوعات بشكل عام، باعتبارها اسرع وسائل الاثراء.
وهذا الأمر بدوره، يؤدي إلى انتشار مظاهر اجتماعية سيئة أخرى مبنية على هذا الانتشار الكبير للمخدرات، فانتشرت كافة انواع الجريمة الأخرى المدعومة برأسمال اسود فتشكلت قطعان التعامل بالمخدرات، وقطعان البلطجة والخاوات، وأصبح بعض هؤلاء واؤلئك قادرون على توظيف عشرات الشباب من ذوي المؤهلات العلمية لخدمة أغراضهم الجنائية.
هذا الأمر، ادخلنا في متاهة المتتالية الهندسية المتسارعة، إذ نشأ عن هذه النشاطات طبقة ثرية أصبحت تشكل مثالا يحتذى، وقدوة للجيل الناشيء، الذي يريد أن يحقق كل تطلعاته، واحتياجاته بسرعة بغض النظر عن الوسيلة، فنشأت لدينا الميكافيلية الحديثة.
وزاد تسارع هذه المتتالية الهندسية البغيضة، عندما تم إدخالها عنوة الى القطاع العام، فصار الفاسد الكبير قدوة ومفسدا لكل مؤسسته، ولم تعد منظومة القيم الاجتماعية (باصولها الدينية والعرفية) قادرة على كبح جماح الرشوة والاختلاس والسرقة، فصار الوصف المتداول : فلان مدبر حاله، مو مثل التيس ابن عمه.
فاهتزت قواعد منظومة القيم لدينا من جذورها واصابتنا بمقتل.
ثانيا:
الحياد الاجتماعي.
تلك المتتالية الهندسية البغيضة في الانحدار الى الهاوية، جعلت الأمر والنهي بيد سلطة اجتماعية وسياسية جديدة، قانونها الأساسي يعتمد مقولة اللي حقه مصاري ادعسه وامشي.
وساعد على نشوء هذه الطبقة توجهات رسمية قامت بتصنيع او اصطناع قيادات جديدة لا تاريخ لها ولا انتماء الا الى الدولار، وتم دعم هذه القيادات المصطنعة بالمال بهدف شراء الذمم ، وشراء المواقف، وشراء التوجهات السياسية، الأمر الذي دفع بالقيادات الحقيقية الى خيارين كليهما بطعم العلقم: فإما ان يتغير ويضع رأسه بين الروس، وأما ان يعتزل الأمر كله.
هذا التغيير الحاد في القيادة المجتمعية، اجهز على ما تبقى من قيم العشيرة والأسرة الممتدة النبيلة، فلم يعد احد يمون على احد، لا بل لم يعد هناك أي نوع من الردع والرقابة الاجتماعية المستندة الى قيم القبيلة الراقية، فلم يعد لشيخ ان يتدخل بسلوك فرد من عشيرته (الا من رحم ربي)، بل ان العم و ابن العم ما عاد لهم ان يتدخلوا بشأن أبناء العمومة ، فتمزقت العشيرة ، وتبعتها العائلة الممتدة، واصبحت الحرب مستعرة حتى على العائلة النووية تحت شعارات ان كل فرد حر برأيه، وقيمه، وسلوكه، ومعتقداته، وهي كلمة حق أخرى يراد بها باطل.
الاستنتاج :
واليوم، وبعد أن اتسع الفتق على الراتق، وأصبح الحليم حيرانا، وبدأنا نشعر بهول المصيبة، أخذنا نتنادى بيننا ان هلموا الى الإصلاح، وهيا الى التغيير، ولكن مصيبتنا حتى في هذه المناداة اننا نطبق نفس النهج المستعجل السريع، فلجأنا الى أدوات الإصلاح الصحيحة ولكن باستخدام المنهج الخاطئ، فكان من الأدوات التي استخدمناها الأحزاب والجمعيات والروابط العائلية والمجالس العشائرية وهي ادوات مثالية رائعة ، ولكنها لا يمكن أن تبنى بصفة الاستعجال، فخرجت علينا هذه الهياكل الكرتونية الفاقدة لروح العمل الحزبي والتطوعية والعشائري، والمفتقرة الى أدنى قواعد الفكر العقدي لبناء أدوات المجتمع المدني و / او العشائري، فخسرنا هذه الجولة أيضا. لأننا مرة أخرى ، استعجلنا الشيء قبل أوانه، فعوقبنا بحرماننا منه. ولا ابرئ أحدا من التآمر ، والدفع الى ما وصلنا اليه، سواء كان ذاك بسوء نية، أو بحسن نية… فإن النوايا الحسنة غير كافية لبناء الأوطان.
ليس بعد الوصول إلى القعر من انحدار، ولا بد من النهوض، ولا يزال الخير باسلامة موجود، ولكننا بلا شك بحاجة إلى بناء النهضة على أساسات قوية وقواعد مقاومة للهزات الأرضية، ومن المؤكد (من وجهة نظري على الأقل) ان اهم أولوياتنا في مرحلة النهوض يجب أن تتركز على إعادة بناء منظومة القيم الاجتماعية النبيلة الخاصة بنا والقدرة على محاربة هذا الظلام الامس واعادتنا الى النور.
العميد المتقاعد
زهدي جانبك
Zuhdi.janbek@gmail.com