البطوش: بعيدا عن التحليلات المباشرة للحدث المأساوي في مستشفى السلط الحكومي

13 مارس 2021
البطوش: بعيدا عن التحليلات المباشرة للحدث المأساوي في مستشفى السلط الحكومي

*د. رضا البطوش

بعيداً عن التحليلات المباشرة للحدث المأساوي صبيحة هذا اليوم في مستشفى السلط الحكومي، والذي راح ضحيته مواطنين أبرياء، نسأل الله لهم الرحمة، كان من المفترض أن يكونوا أمانة في أعناق رجال الدولة الذين يتولون الشأن العام، والذي يرتقي لمستوى الجريمة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، فالإهمال بحق الوطن والمواطن جريمة مكتملة الأركان والمسؤولية في ذلك مشتركة، فثمة قضايا وطنية يجب أن تؤخذ بالإعتبار وتُحلل بعمق وإيجاد الحلول المناسبة لها جلّها يتعلق بالحالة الأردنية الراهنة وما تفرضه الحالة الدولية والإقليمية تجاهها.

وحتى تكون انطلاقة الدولة في مئويتها الثانية واعدة لا متعثرة، تأخذ الوطن إلى المستقبل وتحافظ على استمرارية الدولة وديمومتها في ظل معطيات تفرض نفسها على الساحة الدولية والإقليمية فإنه لا بد من تناول هذه القضايا بمنتهى الجرأة والشفافية آخذين بالإعتبار سمعة الوطن ورفعته ومنعته، وبإيجاز سأتعرض لبعض هذه القضايا:

اولاً: الترهل المرعب في الإدارة العامة أصبح مرض عضال يحتاج إلى جرّاح ماهر، إن الفساد والترهل الإداري ليس انطباعياً كما يدعي البعض وهما وجهان لعملة واحدة، بل أنه اصبح نهج حياه يسعى إلى تفكيك الدولة ويهدد مركز الثقل فيها بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وكون الوطن الحبيب على الحافة نتيجة للتحولات النادرة والخطيرة في تاريخ الدولة الأردنية، فإن علينا أن نتسأل بمنتهى الصراحة والشفافية هل الهياكل والثقافات التنظيمية لمؤسسات الدولة والمفاهيم التي تقوم عليها مناسبة لإدارة المشاكل المجتمعية والبيئية المتسارعة؟ وهل لدينا الإستراتيجيات والآليات الناجعة في تأهيل الموارد البشرية في الدولة تتوائم مع متطلبات دولة الحاضر والمستقبل؟ والأهم من هذا كله هل يجري إختيار إدارات الدولة العليا ممن ينطبق عليهم مفهوم الأكثر كفاءة وأقل مطواعية للفساد ضمن ثوابت الدولة الأردنية التي نتفق عليها جميعاً وهي قيادتنا الهاشمية الملهمة ووطننا الحبيب اللذان تفتديهما المهج والأرواح، أم أن المُتبع في سياسة التوظيف تندرج في سياق القاتل الإداري (مبدأ الأقل كفاءة وأكثر مطواعية) أسوة بالقاتل الاقتصادي.

ولكي نجيب على هذه التساؤلات فإنه يجب علينا النظر بجدية فيما إذا كانت هذه التساؤلات السبب الرئيس لهذه المشاكل، وعليه فإن تردي الأوضاع الاقتصادية وارتفاع حجم المديونية ومعدلات البطالة واتساع بؤر الفقر، وما آلت اليه الحالة الصحّية جراء جائحة COVID-19 يعزى إلى التراجع المرعب لقدرات الإدارة العامة في الدولة، وإنعكاسات هذا التراجع على مجمل الحالة السياسية والإقتصادية والإجتماعية، والأهم من هذا كله في إطار المواجهة هو إختيار إدارات الدولة العليا ممن ينطبق عليهم مفهوم الأكثر كفاءة وأقل مطواعية للفساد ضمن ثوابت الدولة الأردنية التي نتفق عليها جميعاً وهي قيادتنا الهاشمية الملهمة ووطننا الحبيب اللذان تفتديهما المهج والأرواح، وبما يكفله الدستور من العدالة وتكافؤ الفرص بين أبناء الوطن الواحد.

سبق وإن تقدمت منذ سنوات بمقترح إنشاء أكاديمية ملكية للإدارة الحكومية متخصصة بتطوير القدرات القيادية والإدارية للعاملين في القطاع العام ويستفيد منها القطاع الخاص، تعنى بمستويات القيادات الإدارية الثلاث: الإدارة العليا “الإدارة الإستراتيجية”، والإدارة الوسطى “الإدارة التنفيذية”، والإدارة الدنيا “الإدارة التشغيلية”، وتركّز على برامج التدريب والتأهيل المهني المتقدم الهادف على تطوير المهارات القيادية والإدارية والإشرافية والمهارات الذاتية وتطوير أدوات وأساليب الإدارة الفعاّلة بشكل متدرج يبدأ من التدريب المبتدئ أو التأسيسي للموظفين الجدد انتقالاً إلى التدريب المتوسط للمستهدفين في شغل وظائف الإدارة الوسطى ثم التدريب المتقدم للمستهدفين لشغل وظائف في الإدارة العليا، إضافة إلى طرح برامج أكاديمية في الدرجة الجامعية الأولى والدراسات العليا “الماجستير والدكتوراة” تركز في موادها على إدارة المنظمات الحكومية ورسم السياسات العامة والمالية العامة وتطوير الإستراتيجيات وترسيخ مفاهيم الأمن الوطني من حيث الإستراتيجيات والسياسات وإدارة الأزمات والتوظيف الأمثل لعناصر القوة في الدولة على المستوى الوطني وتوظيف تكنولوجيا المعلومات في إدارة الدولة، ومفاهيم الإتصال والتعاون والتنسيق التي تسهم في دمج جهود مؤسسات الدولة لتحقيق الأهداف الوطنية، وتحسين قدرات المؤسسات العامة في مجالات التخطيط والتوجيه واتخاذ القرارات، وتطبيق مفاهيم الحوكمة وممارسات الإدارة الرشيدة بما يضمن تحسين جودة الخدمات الحكومية ومستوى رضا المواطن “متلقي الخدمة” عنها. هذا المقترح للأسف لم يجد الآذان الصاغية وأطرحه الآن لقناعاتي التامة بأن هذا المشروع هو وطني بإمتياز وسيأخذ الوطن إلى المستقبل.

ثانياً: جاءت الرسالة الملكية لمدير المخابرات العامة كتوجيه إستراتيجي لتشكل علامة فارقة في بنائنا السياسي ومُنْطلَق يعوّل عليه لعملية تحول إستراتيجي هادف في الدولة، يؤطر لدولة المؤسسات والقانون في ظل الدستور والتشريعات الناظمة للحريات العامة وتلازم السلطة والمسؤولية، واستبشر المواطن خيراً، الا أن التعديل الوزاري الذي تلى ذلك جاء مخيباً للآمال وأطفأ جذوة الأمل ليودي بزخم التوجيه الإستراتيجي ويعقد المشهد الوطني من جديد، ليأتي هذا الحدث المأساوي ويعمق الأزمة.

ثالثاً: الوحدة الوطنية ونسيجنا الوطني رابط مقدس للبقاء في هذا الظرف العصيب الذي يمر به الوطن، وبعكس ذلك سينجح أعداء الوطن في اختراق منظومة أمننا الوطني وستعم الفوضى، إن الحدث المأساوي في مستشفى السلط الحكومي مدان بكل المقاييس ويوجب المسائلة، الاّ أن الواجب الوطني يفرض على شعبنا الطيب منع الفتنة والتعبير بمنتهى الرقي وبديموقراطية مسؤولة واعية كفلها دستورنا العظيم، والحفاظ على مقدرات الوطن في مواجهة هذه الأزمة التي يمر بها وطننا الحبيب، وبالمقابل على مؤسسات الدولة أن تلغي نهج الإقصاء والإستهداف للشخصيات الوطنية الوازنة ونهج التوريث في المناصب لصالح نهج الأكثر كفاءة وأقل مطواعية للفساد تحت مظلة الدستور والثوابت الوطنية وبما يحمي نظامنا السياسي العظيم، وأن يسبق ذلك كلّه مُصَالحة وطنيّة تستوعب الشعب بكل فسيفسائه.

حمى الله الوطن وقيادته الهاشمية الملهمة وشعبنا الطيّب العظيم

* مدير الاستخبارات العسكرية الأسبق