الدولة المدنية بين نظرية الحرية والديمقراطية ونظرية التغيير

9 مارس 2021
الدولة المدنية بين نظرية الحرية والديمقراطية ونظرية التغيير

بقلم: زيد أبو زيد
انشغل كثير من الساسة والمنضوين تحت عناوين حزبية وسياسية منذ مدة ليست بالقصيرة بمفهوم الدولة المدنية، وتأسيس أحزاب أو تجمعات سياسية أو كيانات أو شخصيات تطالب بتجسيدها في الدولة الأردنية بوصفها مشروعًا سياسيًا يؤسس لنظام سياسي جديد، وهاجم البعض هذا المصطلح؛ إذ عدوه ثورة في شكل النظام السياسي الأردني، وذهب البعض إلى عَدِّه نقيضًا للقبلية أو العشائرية أو الدين، وخلط كثيرون بينه وبين غيره من المفاهيم الدارجة أو تناقضاته مع أشكال النظم السياسية الأخرى كدولة الليبرالية والدولة الشمولية والدولة العلمانية، ولكن التدقيق في هذا المفهوم سيضعنا جميعًا شئنا أم أبينا أمام مفهوم أنَّ الدولة المدنية هي دولة تحافظ على كل أعضاء المجتمع وتحميهم، بغض النظر عن انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الفكرية، وهي قضية أجزم أنها غير خلافية، والمبادئ التي تقوم عليها الدولة المدنية فكريًا بأركانها الثلاثة: السياسي والاقتصادي والاجتماعي تؤكد ذلك، وأهمها أن تقوم تلك الدولة على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، بحيث تضمن حقوق جميع المواطنين، وألا يخضع أي فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر؛ إذ توجد دومًا سلطة عليا هي سلطة الدولة والتي يلجأ إليها الأفراد عندما يتم انتهاك حقوقهم أو تهدد بالانتهاك؛ فالدولة هي التي تطبق القانون، وتمنع الأطراف من أن يطبقوا أشكال العقاب بأنفسهم، وهذه مبادئ ليست موضع خلاف عند أحد، فمن أين جاء هذا الخلاف والتناقض مع دعاة هذه الدولة التي أؤكد أنَّ غالبيتنا يسعى إليها تحت مسميات عدة إلّا إن كان شخوص مروجيها هم المشكلة ولا اعتقد نظريًا بذلك.
صحيح أن من أهم مبادئ الدولة المدنية أنها لا تتأسس على قاعدة خلط الدين بالسياسة ولكنها أيضًا لا تعادي الدين أو ترفضه. حيث إن ما ترفضه الدولة المدنية هو استخدام الدين لتحقيق أهداف سياسية، فذلك يتنافى مع مبدأ التعددية الذي تقوم عليه الدولة المدنية، وفي المطلق فالدولة المدنية هي دولة التعددية والديمقراطية ونظرية الحرية الثقافية والروحية والسياسية والاجتماعية، لأن ما لا يضمن ذلك لا يمكن أن يسمى ديمقراطية.
إنَّ النظم بشكل عام تقوم على مبدئي التعددية السياسية ضمن نظريات التمثيل الشعبي المعروفة في المدرسة الليبرالية أو حكم الفرد أو الحزب الواحد في المدرسة الشمولية وما بينهما من نماذج متعددة متنوعة، ولكن الحقيقية المطلقة أن الديمقراطية هي حكم الشعب بوساطته ولمنفعته، وعبر الشكل الذي يقرره في إطار عالم تسوده العدالة والمساواة، وتحكمه القيم، وهي خلاصة فكرة الدولة المدنية.
وكان جلالة الملك عبدالله الثاني الحسين قد كتب في الورقة النقاشية السادسة : ” إن مبدأ سيادة القانون هو خضوع الجميع، أفراداً ومؤسسات وسلطات، لحكم القانون. وواجب كل مواطن وأهم ركيزة في عمل كل مسؤول وكل مؤسسة هو حماية وتعزيز سيادة القانون. فهو أساس الإدارة الحصيفة التي تعتمد العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص أساسًا في نهجها. فلا يمكننا تحقيق التنمية المستدامة وتمكين شبابنا المبدع وتحقيق خططنا التنموية إن لم نضمن تطوير إدارة الدولة وتعزيز مبدأ سيادة القانون، وذلك بترسيخ مبادئ العدالة والمساواة والشفافية؛ هذه المبادئ السامية التي قامت من أجلها وجاءت بها نهضتنا العربية الكبرى التي نحتفل بذكراها المئوية هذا العام.” وهذه من أهم مرتكزات الدولة المدنية التي تمثل نموذج الدولة المدنية في مستقبل الأردن السياسي.
إذن كما كتب جلالته فإن مبدأ سيادة القانون جاء ليحقق العدالة والمساواة والشفافية والمساءلة على جميع مؤسسات الدولة وأفرادها دون استثناء وخاصة ممن هم في مواقع المسؤولية، من خلال ممارسات حقيقية على أرض الواقع. ولا يمكن لأي إدارة أن تتابع مسيرتها الإصلاحية وترفع من مستوى أدائها وكفاءتها دون تبني سيادة القانون كنهج ثابت وركن أساسي للإدارة.
إن التطبيق الدقيق لمواد القانون يعد من المتطلبات الضرورية لأي عملية تحول ديمقراطي ناجحة. كما أن سيادة القانون تضمن ممارسة أجهزة الدولة لسلطاتها وفق الدستور والقانون. فلا يمكن لدولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان أن تعمل خارج هذا الإطار. لذا، تشترك الحكومة وأجهزة الدولة كافة في حمل مسؤولية ما تتخذه من قرارات وسياسات وإجراءات، فمؤسسة البرلمان تمارس دورها في التشريع والرقابة، والقضاء المستقل النزيه والأجهزة الأمنية مناط بها تطبيق القانون، ليطمئن المواطن بأنه يستظل بسيادة القانون الذي يحميه ويحمي أبناءه دون تمييز أينما كان في ربوع هذا الوطن العزيز. وهذا يتطلب بالضرورة تطبيق القانون على الجميع دون محاباة أو تساهل وعلى المسؤول قبل المواطن، كما يجب أن يستند إلى تشريعات واضحة وشفافة، وإدارة حصيفة وكفؤة.”
وقد كتب الدكتور عزمي بشارة عن شكل الحكم وقضية الديمقراطية في الدولة المدنية جازمًا بأن المجتمع المدني العربي، بنموذجه القائم، لا يحظى بهذه الصفة والمسمى والمشروعية الفكرية للدولة المدنية؛ حيث إنه في المشروع الفكري لعزمي بشارة، تحظى علاقة المجتمع المدني بالدولة بمكانة أساسية، لما لهذه العلاقة من اتصال بأهم مقومات فكرة الديمقراطية الحديثة.
أنّ المجتمع المدنيّ من دون سياسة، وخارج سياق النّضال في سبيل الديمقراطيّة، هو إجهاض للمعنى التاريخيّ للمجتمع المدنيّ، ومن هنا نحدد الفارق بين الأمّة والقوميّة، ونرسم تخومًا منهجيّة ومعرفيّة بينهما. وفي هذا الحقل من المعرفة نشدَّد على الأمّة المواطنيّة بوصفها أمّة نحو الخارج، ومجتمعًا مدنيًّا نحو الدّاخل. أمّا المواطنة فهي عابرة للهويّات الثقافيّة والأثنيّة والطائفيّة والقبليّة دون تناقضات بينها أو صراع في إطار سيادة دولة المؤسسات والقانون، بينما القوميّة تتأسّس على اللّغة. وعلى هذين الأساسين يمكن بناء المجتمع المدنيّ وتشييد عماده في العالم العربيّ.
وإذا كانت الديمقراطية تقول إن الحكم فيها للشعب، فقد تعددت النظم السياسية التي تقول بذلك، وإن كان بينها خصائص مشتركة، واستنادًا إلى ذلك فمن الخطأ إذًا تعريف الديمقراطية في المجتمع المدني بأنها النظام الذي تتَّبعه الولايات المتحدة الأمريكية أو فرنسا أو غيرها من الدول الغربية كما يحاول بعض منظري هذه النماذج الترويج لها؛ وعليه يكون من حقنا أن نختار ما يحقق المبادئ والقيم السياسية المناسبة لهويتنا وواقعنا، وبما يحقق الحرية للإنسان بوصفها جزءًا من المجتمع الذي تتوحد فيه الهوية والسلطة، وهذا ما يحدده شكل الديمقراطية بوصفه مصدرًا لقوة الفرد والمجتمع، وهو جوهر الدولة المدنية التي تقوم على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات والعدالة ، بحيث تضمن حقوق جميع المواطنين.
ولأن الديمقراطية منهج حقيقي للتغيير، وطريق صائب يبقي النظام السياسي متماسكًا وقادرًا على التعاطي مع المستجدات، وعاملًا حيويًّا للعطاء المستمر، وإذا كانت سلطة الشعب وحكمه ليسا قياسًا على تلك الممارسة العملية في جعل الشعب يختار ممثليه في البرلمان عبر ما يسمى بالانتخابات، وتعيين نوع الحكم، واختيار من يحكم، وخضوع الأقلية لرأي الأغلبية؛ في حالة من مداورة الرأي غير القائم على العدمية السياسية التي وضعت شكلا للمعارضة الدائمة في بعض النماذج من دون التمحيص في صوابية المعروض من الآراء أو الأفكار أو التشريعات، وبذلك تنتفي صوابية نسبية المفاهيم، مع أنها أساس الفكر الديمقراطي.
إن الديمقراطية في الدولة المدنية التي نريدها ضمن هذا المنهج النقدي، هي الديمقراطية التي تضمن العدالة وتكافؤ الفرص والمساواة، وتبتعد عن العنصرية والإقليمية والفئوية، وبذلك تكون شكلًا متقدمًا من أشكال الممارسة السياسية والاجتماعية، وتعبيرًا عن التطور الحضاري والثقافي للمجتمع، وهي لا تقوم على مبدأ تقديس الأفراد، أو تقديس سلطتهم، وأحقية هذا أو ذاك بالحكم من دون غيره، بل تقيم وزنًا للمؤسسية المتمثلة بالسلطة النيابية، وأداتها في الحكم القابلة للتجدّد والتطوّر، والكفاءة والقدرة على تمثيل مصالح الشعب، وهي الأساس الذي يتمكن فيه الأفراد من ممارسة حقهم في السلطة تشريعًا وتنفيذًا وقضاءً من دون أي فصل قسري، وهذا ما أكده (منسيكو) في كتابه (روح القوانين) عندما وصف الفصل بين السلطات بأنه فصل سياسي وليس فصلًا قانونيًّا.
وتوجد أشكال متعددة من الهياكل السياسية المنبثقة عن النظم السياسية الليبرالية التقليدية بمدارسها المتنوعة تُسمى نظمًا ديمقراطية بغض النظر عما توفره من حقوق ومساحات للحرية، ولكن الديمقراطية الحقيقية هي التي توفر كل الحقوق وليس بعضها، وتوفر أيضًا الحريات السياسية والمدنية للشعب، وما دمنا نتحدث عن تغيير في المفاهيم، فلا بد للمجتمع الساعي نحو الديمقراطية التي نتحدث عنها من نظرية تغيير جديدة تحدد له الطريق الذي يحقق فيه الديمقراطية المنشودة، وتشكل نظرية التغيير أساسًا للعمل الديمقراطي؛ حيث لا تغيير حقيقي بلا نظرية ومنظرين، ولا ديمقراطية حقيقية من دون تداول للحكومات.
والتغيير الجذري مرتبط بالتخطيط الإستراتيجي الذي يمس جميع جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وينتقل بها مرة واحدة نحو الهيكل الجديد الذي ينسجم والحرية الحقيقية، وتُشبع فيه الحاجات وتتحقق الديمقراطية بأبهى صورها، فالأمر يتعلق بتغيير ثقافة المجتمع، وتغيير المفاهيم وشكل الأنشطة السياسية والاقتصادية فيه؛ لأن التغيير ليس عملًا مؤقتًا بل صيرورة للحركة الشعبية في التاريخ، وهذا يتطلب من الجماهير الوعي واليقظة المستمرة، وعدم التغافل والتسليم بالمفاهيم الرجعية، والتسلح بفقه علمي يلغي المنهج التلفيقي والنماذج المشوهة المنقولة والمنسوخة التي لا تناسب واقعنا الثقافي والقيمي وأحيانا قضايا الصراع.
إن الديمقراطية الليبرالية المتبعة في العالم الغربي والولايات المتحدة الأمريكية، والتي اقتطعت أجزاء منها وطبقت بشكل أكثر تشويهًا في عدد من دول العالم النامي تحقق فقط مصالح الأطراف الأقوى اقتصاديًّا في المجتمع، ويتجلى ذلك بشكل واضح وجلي في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، حيث يمثل البرلمان مصالح الرأسماليين وكبار المُلّاك والصناعيين ومديري الشركات الكبرى عبر اللوبيات، ولا تحقق مصالح الشعب فعليًا.
لن نختلف كثيرًا مع كافة منظري الفكر الديمقراطي في أن الكل يدعي الديمقراطية، والمستبدون يتحدثون عنها ربما بإبداع أكثر من غيرهم، ويصفون أنظمتهم السياسية بالمثالية، بل يكادون يقدمونها على أساس أنها المدينة الفاضلة، ولكن الحقيقة أن الديمقراطية المثالية لا زالت بالنسبة إلى الإنسانية حلمًا بعيد المنال، وربما يقود البحث فيها إلى نتيجة لم تعد تخفى على المتابع والمهتم، بل إنها تشكل مدخلًا لتحديد نقطة الخلاف الرئيسة بيننا وبين من يدعيها، فالغرب المدعي تبنيه للديمقراطية تبتعد المسافات بيننا وبينه، حيث أنَّ نقطة الخلاف الحقيقية هي في ميدان القيم ونظام الحكم معًا، فعندما نرفض الديمقراطية الغربية، فإن رفضنا مزدوج، فهو رفض لمنظومة القيم القائمة عليها الديمقراطية الليبرالية الغربية، وهو رفض أيضًا للمبدأ الرئيس فيها، وهو مبدأ فصل السلطات القسري وغير القانوني منهجًا وهو لصيق بالنظام السياسي الليبرالي الغربي، فلا محاسبة للسلطة القائمة هناك على أرض الواقع؛ لأن الأغلبية النيابية هي فعلًا الفئة الحاكمة المشكلة للحكومة، فكيف يكون الفصل الحقيقي للسلطات؟ من دون أنْ توجد سيادة للقانون أو رجوع منظم إلى إرادة الشعب، أو رقابة حقيقية ومحاسبة مع هذا المبدأ، أو أسلوب تنفيذي حقيقي يعبر عن إرادة الغالبية، والاستفتاءات أو الانتخابات في الوقت الذي تجري فيه وفق ضوابط تصادر حرية الشعب وإرادته وفقًا للمبدأ المثالي والقواعد الأنموذجية، ولكنها أشكال تحقق مساحات واضحة من الحريات، أما ديمقراطيات دول العالم الثاني فهي على الأغلب مشوهة، ولكن هل هي نهاية المطاف أم بداية الطريق للإصلاح؟.
إن المشاركة في التغيير ووضع الورقة في صندوق الانتخاب هما اللذان سيؤسسان للتغيير القادم، وإن النقوص والاستنكاف هي العدمية المطلقة والعقدة التأزيمية لأي نموذج يريد أن يرتقي ديمقراطيًّا للوصول إلى حالة أقرب للمثالية شريطة تناغم التشريع مع الأداء.
من المؤكد أن البشر كافة يؤكدون ضرورة تحقيق وتَنَسُّم الحريات بعد قرون من الظلم والاستلاب الذي عاشته البشرية، وبات لزامًا علينا كافة بذل مزيد من العمل والجهد المدروس للاستفادة من دروس الماضي؛ تجنبًا للانتكاسات القاسية التي حلت بالحرية عبر هذه المسيرة الطويلة، وللإفادة من الظروف الراهنة، التي شهدت تراجعًا غير مسبوق للرأسمالية والماركسية، واضمحلال الفلسفات القائمة عليها، وبات الواقع يسمح من جديد بالتفكير في حل آخر للأشكال الحالية من نظم سياسية مأزومة مترافقة وأزمات اجتماعية واقتصادية تشير إلى مستقبل مظلم للرأسمالية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وأكثر ظلامًا للماركسية الشمولية الكلاسيكية.
لكن القضية الرئيسة التي ما زالت تواجهنا جميعًا في هذا العالم هي في طبيعة الحل القادم وشكل النظام السياسي المرتقب، والأنموذج الحلم الذي سيشكل علامة فارقة في مستقبل الإنسانية جمعاء، وتضع هذه القضية مسؤولية بذل جهد مضاعف للملاءمة بين ما هو متغير في العصر وما يعد ثابتًا من حيث الفهم في أي فلسفة جديدة، ولكن هل تكون البداية معابد وصوامع للتفكير دون فعل حقيقي بالتغيير على الأرض في كل ديمقراطية ناشئة وأولها الأردن بمشاركة جميع من يحق لهم التصويت كي يختاروا لاحقًا شكل منظومة التشريعات الناظمة للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويحاسبون حكوماتهم، ويراقبون أداءها بدل اللطميات المعهودة وحالة الندب والبكاء التي أصبحت ممجوجة ولا سيما مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت للبعض فضاءً واسعًا للمثالية النظرية واللطم المجنون.
ولا شك في أن جلالة الملك عبدالله الثاني تنبه مبكرًا إلى هذه الأزمة فانطلق مبدعًا للعمل على تجديد المفاهيم والقيم والمعاني للإبقاء على حالة الحضور في العصر, وعدم الاغتراب في فهم ربما آن الأوان لتجديده, والخروج به من منعطفه الضيق، فكانت الأوراق النقاشية خارطة طريق للنموذج المنشود، كما أعطى تصورًا متكاملًا للمشكل الاقتصادي والاجتماعي ليشكلا مع المشكل السياسي الحل النهائي للاستغلال والعبودية والقهر وغياب العدالة والحياة في مجتمع تسوده العدالة والشفافية والنزاهة والشراكة في أجواء الحرية وإرادة التغيير موحدة الهوى، فهل من إنهاء لعقدة المشاركة وبخاصة في فئتي المرأة والشباب لتنتهي حالة النكوص على الذات؟
يحدث هذا في الوقت الذي يشهد الخطاب العربي مزيدًا من الاختلاف بالرغم من أجواء المصالحة هنا أو هناك حول تفسير القضايا التي تواجهه، وحول كيفية صياغة رؤية منظمة قادرة على لفت الاهتمام وحيازة الدخول في الحياة السياسية على حد سواء، وكل ذلك يستدعي من المفكر المنصف أن يقول إننا إذا دعونا إلى نظام حكم ديمقراطي فيجب أن نفصل بينه وبين أي نموذج قائم لنصمم نموذجنا، ونبني مفهومًا مشتركًا للديمقراطية الحقيقة، وهي الديمقراطية التي نصممها نحن وليس غيرنا ووفق ظروفنا وحاجاتنا، وتنطلق من الحاجة الماسة إلى القيام بتقييم حقيقي نظري، ومن ثم عملي، ومقارنته بما يتم في أي نظام آخر لنكتشف بسهولة بالغة أنَّ أي نظام سياسي لا يحقق حرية أفراده وفق منظومتهم القيمية وشريعتهم لا يمكن أن يسمى مجتمعًا ديمقراطيًّا أو نظامًا سياسيًا عادلًا مدنيًا، لأنه إذا كانت للمجتمعات تفضيلاتها, فإن نظام الحكم الديمقراطي له بالضرورة مقوماته أيضًا, ولا بد لكل شعب يريد تفكيك الاستبداد ويدرك مفاسد استمرار حكم الفرد أو الحزب أو الطبقة أو البرلمان, من أن يجري مفكروه وقياداته السياسية مقاربات جوهرية تزيل التعارض بين ثوابت مجتمعهم ومقومات نظام الحكم الديمقراطي، بالتركيز على جوهر كل منهما، ومن ثم تحديد الخيار الديمقراطي الذي يحقق وحدة السلطة والحرية معًا.
إنَّ كل أنظمة الحكم في العالم, لم تنتقل إلى نُظم حكم ديمقراطية بعد، بالرغم من أنه توجد فروق جوهرية بينها من حيث الانفتاح السياسي ومستوى حرية التعبير وحكم القانون ونمو المجتمع السياسي والمجتمع المدني، حيث من الجدير التأكيد عليه أن ممارسة السلطة مسألة عملية، فإما أن يكون مصدره فرد أو قلة وتكون بذلك تسلط، أو يكون مصدرهَا كل الشعب وبذلك تكون سلطة عادلة.
من هنا فإن على القوى الأردنية التي تنشد التغيير أن تميز نفسها وأن تطرح نظام الحكم الديمقراطي الذي يحقق مصالحها، وينسجم والعهد والبيعة التي قطعها المجتمع للملك بوصفه نظام حكم وطني يسد ثغرات الاختراق الخارجي، ويفوّت الفرص على الراغبين في تفكيك الدول العربية وإضعاف مجتمعاتها، وهذا لن يتم إلا بالمشاركة. فليكن شعارنا لنشارك في التغيير، ونبتعد عن لطميات العدميين المتشائمين دومًا والمحبطين ولا نترك الساحة خالية للناعقين على الخراب.
من هنا فنحن نبحث عن نموذجنا الديمقراطي الأردني الخاص بعيدًا عن نماذجهم؛ فقد أثبتت الأزمة المالية العالمية المرتبطة بجائحة كورونا، وأزمة العقارات الكبرى قبل ذلك بعقود، وأزمات الأسواق المالية والنفط عدم قدرة الأنظمة الرأسمالية على الاستمرار اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا بشكل سلسل، وأنها لا بد من أن تتّبع وسائل تحايلية لتتمكن من الصمود المؤقت إلى حين التمكن من وضع إستراتيجيات جديدة، ولكن هذا يدعو العالم النامي إلى التنبه لخطورة ذلك على اقتصادياتها؛ ما يتطلب منا البحث عن نموذجنا الخاص من أجل التغيير السلمي نحو الأفضل.
وهنا نجد أنه من الضروري تحديد السمة الرئيسة التي تميز فكر جلالة الملك عندما تحدث عن إعادة ضبط العولمة وأنسنة العولمة لتحقيق التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتصبح المجتمعات أكثر تكاملًا ومنعة وإنصافًا، فما يميّز فكر جلالة الملك هو احترامه المطلق للإنسان، ولقيمه الدينية والثقافية والتراثية، وفي ذلك تأكيد على إنسانيتها وديمقراطيتها؛ لأن القواعد الطبيعية هي المقياس والمرجع والمصدر الوحيد في العلاقات الإنسانية، وهنا فإن حديث الملك عبدالله الثاني عن هذه القواعد سيقود إلى شبكة أمان عالمية في ظل نظام ديمقراطي إنساني عالمي يعزز حاجات الأفراد، ويستثمر في قدرات الفرد والمجتمع معًا، ويقود حراكًا لتحقيق السلام في المنطقة والعالم، وإيجاد العدالة وتغييب الظلم، فنحن باختصار أمام ربيع عالمي جديد فرضته ظروف استثنائية على المنطقة والعالم.