أذرح – الشوبك- الكرك- رام الله وبالعكس

4 مارس 2021
أذرح – الشوبك- الكرك- رام الله وبالعكس

  أ. د. م. منذر حدادين

اجأني الصديق الألمعي رمضان الرواشدة بمقالته التي طرز بها صفحة الرأي يوم الثلاثاء 26 آذار التي تطرق بها إلى الشوبك – رام الله وأعاد بها إلى الأذهان أن من بنى رام الله هو راشد الحدادين وأبناؤه الخمسة وقد نصبت لهم بلدية رام الله ما يليق بهم على دوار مدخلها. ورجح الصديق العزيز أن الحدادين هاجروا إلى رام الله من الشوبك.

ومن أفواه كبارنا قبل أن يمضوا كما مضى أسلافهم عبر العصور أن للحدادين، بعد رحلتهم الطويلة من مأرب إلى الحديدة المأزومة اليوم إلى بلاد الشام، كان أول مستقرهم في أذرح من أعمال محافظة معان اليوم. وهي البلدة التي اتفق عليها طرفا معركة صفين لتكون مقراً للتحكيم بينهما. ويعود السبب في تقديري أن سكانها كانوا مسيحيين حياديين، ولذلك لم ينقل التاريخ أن عراكاً أو قتالاً وقع بين أنصار أولئك وأنصار هؤلاء بعد إعلان نتيجة التحكيم أحادية الجانب.

وفي زيارة للأمير الحسن بن طلال شرفني يومها بمرافقته إلى أذرح عام 1984 وقاد المروحية بنفسه وهبط بها إلى الشرق قليلاً من مضارب خيام المعازيب ( عشيرة الجازي) كي لا تتأثر بيوت الشعر بالتيارات الهوائية، ولما دعاني سموه إلى الاطلاع على الآثار التي هبطنا عندها أجبته:

-سيدي، أنا على درلية بها فقد بناها أجدادي!

ثم قدم المستقبلين يتقدمهم شيخ الجازي المرحوم فيصل (أبو غازي) وإلى جانبه صاحب الدعوة المرحوم الدكتور عبدالله الهارون، ولدى مسيرتنا سوية قال سموه مخاطباً شيخ الجازي:

-يا ابو غازي

-سم طال عمرك

-الدكتور منذر يقول هذي الآثار آثارهم!

-إي بالله، الآثار آثارهم والبلاد بلادهم، ودهم إياها الله والنبي محييهم!

وفي العام 1981 حضر لشهر العسل من سياتل بولاية واشنطن مع عروسه ابن عائلة كريمة أنا صديق لها، استقبلته في المطار وكان ضمن برنامج الزيارة رحلة سياحية للجنوب سلكت فيها طريق الموجب، أريتهم قلعة الكرك وعرفني في المدينة كثيرون فهي مكان مولد والدي وأجدادي، ثم واصلنا الرحلة جنوباً عبر الطفيلة وبير العطاعطة ولما وصلنا نجل الشوبك تضايقت العروس كثيراً فأوقفت السيارة وسلكت متلهفاً درباً صاعداً أنشد المساعدة، وأسرع إلينا رجل في منتصف العمر ولما رأى الحالة نادى على زوجته لتهيئة المطلوب وعملنا على تسليم العروس للزوجة، بينما قادنا الرجل الشهم إلى غرفة للصيوف مفروش أرضها بالبسط. ولما جلسنا نظر إلي بتركيز وقال:

-أنا شايفك، وين شايفك

-ربما في التلفزيون والأخبار. أنا منذر حدادين وإذا إلك ثأر ها أنا ذا بين يديك وفي بيتك.

-استغفر الله، أنتم أناس كرام. لكن عتبنا عليكو كثير. كيف بتتركوا أراضيكو (وأشار خلال الشباك شرقاً) الواسعة وبتروحوا على عمان. هون أراضيكو.

ومن باكورة زياراتي التعارفية في مدينة سياتل الأميركية في تشرين أول عام 1965 قمت بزيارة إلى شبخ جليل اسمه بالعربي «محارب حرب» وبالإنجليزي «Marshall Harb» وعائلته من عائلات رام الله المشهورة. قال الشيخ الجليل أنه وعائلته من الحدادين وهاجروا من الشوبك إلى رام الله، كما أورد ذلك الصديق العزيز رمضان الرواشدة. وفي تقاليد عائلتنا (أبناء خليل الحميدي الحدادين) صلات دورية ومتواترة بعشائر الشوبك ووادي موسى احتفظنا بها منذ قديم الزمان، وما زالت هذه العلاقة قائمة وخاصة مع عشيرة الحسنات.

وما تناقله كبارنا ونشرته مجلة «العربي» الكويتية في أحد أوائل أعدادها في أواخر الخمسينات ما تطابق مع أقوال كبارنا. وهو أن هجرة الحدادين إلى فلسطين كانت بسبب خلاف عميق مع عشيرة القيصوم من قبيلة العمرو ومع شيخها بالذات. ونتج عن تلك المواجهة سفك دماء طالت عديدين من القيصوم واثنين من الحدادين كان مصيرهم الإعدام «دحلاً» من أعلى الجبل السحيق على الضفة الشمالية لوادي الكرك. ورافقهم في الهجرة حليفهم من عشيرة «البنوي» المسلمة. وحطوا رحالهم أولاً في بلدة حلحول إلى أن اشتدت بهم الحاجة هناك، فلجأ راشد الحدادين وأخوه صبرة إلى بطريرك الروم الأرثوذكس في المدينة المقدسة فأسعفهم، ومنح خربة رام الله للحدادين وخربة البيرة المجاورة للبنوي. ونشط المهاجرون الجدد وابتاعوا أراض زراعية حولهما.

إلا أن صبرة الحدادين، وبسبب ذكر زوجته «بير القاع» وهو بئر في الكرك كان يستعمل لخزين الغلال وهو دائماً مملوء بالغلال تحسباً لسنوات المحل، قرر العودة وتمكن بدهائه من التصالح مع القيصوم وأهداهم محتويات بير القاع بعد سني محل متوالية. وعاد إلى رام الله يحمل من غلال البئر المخزونة وأبلغ شقيقه أنه «أصلح» مع العمرو ودعاه للعودة إلى أرض الجدود في الكرك لكن الشقيق راشد وأولاده آثروا البقاء في رام الله وكذلك البنوي في البيره. عاد صبرة إلى الكرك وأنجب، وناسب الهليس القادم من مصر وهو الذي أنجب عشيرة الهلسه من زوجة هي حفيدة صبرة المذكور.

تواصلت مع حدادين رام الله وكان منهم هنا في عمان المرحوم معالي نديم الزرو، وقال لي قبيل وفاته أن أهل رام الله (الحدادين) وأهل البيرة لم يعرف عنهم أي نزاع أو عداوة أو اقتتال وإنما عاشوا بحسن جوار وطيبه. وقال إن أهل البيرة وأهل رام الله كانوا يشتركون في (غرم الدم) حتى العام 1965.

هكذا تمثل المدن الأردنية المذكورة في الجنوب ومدينتا رام الله والبيرة في فلسطين أنموذجاً للعيش المشترك المتصالح ويقدم دليلاً على انفتاح البلاد في حقب العرب الماجدة، وقد قيل إن نزوح الحدادين (ومعهم البنوي) من الكرك إلى حلحول فرام الله كان في أواسط القرن السادس عشر عند أو بعد دخول سليم الفاتح بلاد الشام ومصر. وعلينا أن نؤكد أن أوتوستراد أذرح – الشوبك – الكرك – رام الله والبيرة طريق وصل متسع سريع يربط أهلنا وأقرباءهم وأنسباءهم بعضهم ببعض في حزمة قوية مدعاة للاتفاق وعصية على الاختراق. وأقدم شكري للصديق العزيز رمضان الرواشدة لإثارته الموضوع