الترقيات الأكاديمية في جامعاتنا بين التسيّب والتسلّط

25 ديسمبر 2020
الترقيات الأكاديمية في جامعاتنا بين التسيّب والتسلّط

 

د. حفظي اشتيه

تعد الترقيات الأكاديمية من أهم الترفيعات في عالم الوظائف، فهي تتعلق بالعلم وهو أشرف جنى، وبالأساتذة الجامعيين وهم سدنة هذا العلم، وبالجامعات وهي مهاد التعليم والقيادة والتأثير والتغيير والتطوير في المجتمعات.

وقد وُضع قانون للجامعات، وتفرعت عنه أنظمة وتعليمات تتعلق بالترفيعات الأكاديمية لأعضاء الهيئة التدريسية، الأصل أنها تهدف إلى ضبط هذه العملية، وفرض الشروط اللازمة لترقية الأستاذ الجامعي من رتبة إلى أخرى(مدرس، أستاذ مساعد، أستاذ مشارك، أستاذ)، أو نقله من فئة إلى فئة أخرى ضمن الرتبة الواحدة.

ويَظن الملاحظ ذو النظرة السريعة السطحية، أن الأمر على هذه الحال لا شائبة تعتريه، فهو لون واضح لا شيةَ فيه، ولا مجال لخلاف بشأنه، فيظهر الأمر هكذا:

(قانون وأنظمة وتعليمات واضحة النصوص والمطالب، يتم إسقاطها على طلب الترقية المنظور بعين العادل الموضوعي الذكي، فيُجاز الطلب، أو يردّ موضَّحاً بالأسباب).

وبذلك يصل كل مدرس إلى حقه، ويحصل على ترقيته، فتقوى عزيمته على عمله، وتشتد رغبته، وترتفع معنويته، فيعمل ويُبدع. أو يفهم أوجه القصور في طلبه ويبادر إلى علاجها ليلحق بركبه.

ليت الأمر يكون هكذا، لكنّ للواقع قولاً آخر، وحديثه ذو شجون:

أولاً: القانون واحد، والأنظمة والتعليمات متعددة:

يرسم القانون المنهج العريض للترقيات، فتنبثق عنه أنظمة وتعليمات تختلف من جامعة إلى أخرى في عدد النقاط المطلوبة لكل ترقية، وعدد الأبحاث، ونوع المجلات، وشروطها…إلخ، فتجد أنّ المطلوب للترقية إلى رتبة واحدة في إحدى الجامعات، يوازي المطلوب للترقية إلى رتبتين اثنتين في جامعة أخرى.

ويتفاوت الحكم على المجلات: هذه المجلة معترف بها في هذه الجامعة، وغير معترف بها في جامعة أخرى.

هذه المجلة كان معترفاً بها في هذه الجامعة، ولم يعد معترفاً بها في الجامعة نفسها. هذا الباحث اعتُرف ببحثه في هذه المجلة، وزميله الذي يشاركه في البحث نفسه والمجلة نفسها والجامعة نفسها لم يُعترف ببحثه…. كل هذا ونحن في وطن واحد، يخضع لقانون واحد، وضمن ظروف وجامعات متشابهة!

ويزيد الأمر غرابة وتعقيداً عندما نستحضر أن بعض الجامعات تغيّر الأنظمة والتعليمات عدّة مرات في بضع سنين وفقاً لتغيّر المسؤولين؛ فتجد مدرسَين اثنين في الجامعة نفسها بل في القسم نفسه، سبق أحدهما الآخر أياماً أو أسابيع في تقديم طلب ترقيته، ففاز ونجا، لكنّ زميله تأخر فداهمته تعليمات صاروخية مفاجئة أعاقته، وأثقلت كاهله بمطالب جديدة، أخّرته كثيراً، وربما أحبطته وأفقدته أدنى رغبة في البحث، علماً بأن مستوى أبحاثه وإنجازه والتزامه …. قد يكون أفضل كثيراً مقارنة مع زميله المحظوظ فقط بالسبق الزمني.

والأغرب أن هذه التعليمات الصاعقة قد تطبّق بأثر رجعيّ في بعض الأحيان، فتجعل الحكيم الحليم مصدوماً حيران!

ثانياً: القانون واحد، والأنظمة والتعليمات واحدة، والجامعة واحدة، لكنّ الحظوظ مختلفة:

وهذه صورة مؤلمة أخرى من الواقع المحبِط ففي بعض الحالات يُنظر بعين الجدّ الزائد والحزم الشديد في أحد الطلبات، بينما تلين العريكة والجانب، وترق النظرة في طلب آخر، فتتفاوت النتيجة بين ناجح وراسب، والتسويغات شاخصة جاحظة العينين في كلتا الحالتين بين نص القانون وروحه.

ويتجلّى التمايز بين طلبات الترقية أحياناً في سرعة الإجراءات، فترى أحدهم قد تمّت ترقيته خلال بضعة أسابيع أو أشهر على الأكثر، بينما ينتظر آخر سنة أو أكثر وهو متلفع بالأدب يحترم المسؤولين فلا يزعجهم بالتوسط أو الإحراج، بل لا يُثقل عليهم بمجرد السؤال عن مصير طلبه، وكلما مرَّ وقت أطول، انتابه شعور أجمل، وآنسه الأمل بأن خبر الترقية السعيد أصبح قريباً، لكنه يُفاجأ ذات يوم بقرار ينص على عدم السير في إجراءات ترقيته (مجرد السير وليس الترقية نفسها أو إرسال الطلب للتحكيم).

وتُردّ إليه بضاعتُه وأبحاثُه وأوراقُه محنطةً مكفنةً باليأس ومرارة السؤال: كيف ضاع كلّ هذا الوقت للنظر في الطلب فقط ؟ ومن أين سيأتي بدافعية أو معنوية للبداية من جديد؟ لاسيما أن ردّ طلبه قد لا يكون مسبَبا، فلا يعرف ذنبه ليتوب عنه، ولا يفهم ما هو المطلوب منه ليؤديه، وتنعدم أيّة قيمة في ذهنه للأقسام الأكاديمية، والكليات، ولجانها العلمية المتخصصة التي نقّرت طلبه، وأجازت رفعه لاستيفائه الشروط المطلوبة كاملة! وينحصر اهتمامه الآن في همّ جديد ما كان يخطر على باله، وهو مخاطبة المسؤولين لمعرفة الشروط غير المكتملة في طلبه، والتي غابت عن أذهان اللجان العلمية في القسم والكلية، ويهيئ نفسه لانتظار الرد الذي قد لا يأتي، ليبدأ محاولة مقابلة هؤلاء المسؤولين والوقوف طويلاً على أبواب موصدة أصحابها مشغولون دائماً….

ثالثاً: منزلة بين المنزلتين:

يقول الحكماء: الفضيلة منزلة تتوسط رذيلتين ؛ فالشجاعة تتوسط الجبن والتهور، والكرم يتوسط البخل والإسراف، وهكذا…..

كم نحن بحاجة إلى تمثّل بعض المسؤولين هذه الحكمة عند النظر في الترقيات الأكاديمية!!

لا شكّ أن بعض المسؤولين لمس تجاوزات في الترقيات جعلت فئة من الأساتذة الجامعيين يحصلون على رتب دون وجه حق، أو بحق منقوص، فليس منكوراً أن بعض الأبحاث يمكن أن يكون منشوراً في مجلات وهمية( غير واقعية)، وأن بعض المجلات يمكن أن تكون ضعيفة في المستوى، وأن بعض الأبحاث يمكن أن يُطعن في صحتها ونسبتها، وأن بعض الباحثين يمكن أن يتطفل على زملائه فيوضع اسمه على أبحاثهم دون أن يكون له دور إلّا العلاقات في النشر، وأن بعض الأبحاث يمكن أن يكون مستلاَ من رسائل جامعية، أن تغيب عنها تماماً الأمانة والنزاهة العلمية….. إلخ.

كلّ هذا قد يحصل، ونأمل أن يكون هو الذي دفع بعض المسؤولين إلى التشدد في التعليمات لتصويب الخلل، لكن يُخشى أن هذا التشدد ليس هو الأسلوب الأمثل، فلا بدّ من التذكير بأن هذه الفئة من الباحثين تبقى قليلة، وصفات أصحابها موجودة في المجتمع كلّه وليس في الجامعات وحدها، إنها فئة فهلوية إنتهازية مجبولة بالأنانية، غاياتها تبرر وسائلها غير السويّة، وكثيراً ما تتصدر المجالس، ويعلو ضجيجها فتظفر بالمكاسب، وتتنافخ مزهوة بألقابها العلمية التي لا تستحقها، فتجعل عامة المدرسين الأسوياء يزهدون بالألقاب والمجالس والمناصب، ويلفظونها غير آبهين بها، ويرفضونها غير آسفين عليها. إنها فئة قليلة في الجسم الأكاديمي، ويجب بترها ليصح الجسم من السقم ويسلم.

إن العقاب يجب أن ينصب على هذه الفئة، فيُنظر في تاريخها وسيرتها الأكاديمية والعملية وأخلاقها، لمحاسبتها ونزع مكاسبها وضبط تسيبها وتنقية الوسط الأكاديمي من شوائبها. ابحثوا عنها وانظروا وتبصروا فلعلها قريبة منكم وتظنونها بعيدة.

أما أن يعالج الأمر بمزيد من التسلّط والتشدد، وابتداع تعليمات إثر تعليمات تقع جناياتها على المدرسين جميعاً فيغرقون بها ويظلون صرعى لها، وينعكس ذلك سلباً على نفسياتهم ومعنوياتهم ودافعياتهم وعلاقاتهم الإنسانية في بيئتهم الجامعية بل حياتهم الأسرية، فيُخشى أننا بذلك نكون قد ابتعدنا عن المراد، وحققنا عكس الهدف النبيل المأمول، وظلّت إبل سعد ظمأى والماء فوق ظهورها محمول، فقد يكون الذئب أمامنا نراه عياناً، لكننا نضيّع وقتنا وجهدنا في تتبع أثره.

إلى كلّ مسؤول يرى أن وطننا يستحق الأفضل، لأنه كان منارة علم في المنطقة، نقول :

الوسط الأكاديمي في أزمة، والحكايات التي تروى كثيرة، والأدلة لمن يبحث عنها وفيرة، لكننا نحتاج إلى المسؤول القوي العادل الحكيم الذي يصوّب الأمر، ويجبر الكسر قبل أن يستشري الداء، ويستعصي الدواء.