ممدوح العبادي: وسط السرب.. خارج الصندوق

7 ديسمبر 2020
ممدوح العبادي: وسط السرب.. خارج الصندوق

وطنا اليوم – الدكتور ممدوح العبادي ليس سويسريا. هو الذي يصف نفسه بهذا التعبير عندما تسأله عن طباع وسلوكيات اختفت تقريبا من حياتنا اليوم لكنه ما زال يعيشها ويعتز بها.

 

في كل القضايا العامة، ومنها الخلافية، لـ «أبو صالح» مساحة خاصة رحبة تسمع منه فيها ما يتجنب الآخرون تسجيله علنا تجنّبا للغبار. فهو «خارج الصندوق من داخل السرب» في بيئة رجالات الدولة الذين تتفاوت توصيفاتهم الأكاديمية ما بين الحرس القديم والحرس المتجدد.

 

قطعا هو ليس ممن ورثوا المنصب. فقد وصل اليه الكرسي بأهليّة بُنيت من فوق الصفر، وما زال يزهو بأنه عبادي من عيرا ويرقا، ولم يتغيّر.

 

اسأل من تشاء ممن لا يعرف نائب رئيس الوزراء الأسبق د. ممدوح العبادي عن كثب لكنه يعرف الشائع من تاريخه المهني كطبيب وناشط سياسي ثم كوزير، وسيقول لك ان «أبا صالح» ابن الزرقاء ثم انتقل للعيش في عمان.

 

ففي هاتين البيئتين المتباعدتين حد ّالجفاء، عُرف ممدوح العبادي بالذي أصبح فيه، فصلا خاصا بذاته خارج الصندوق، عندما يجري تصنيف رجالات الدولة على أيّ من قوائم التميّز والتنافسية الشائعة التي يمتلك هو منها فائضا يجعله قصة مختلفة.

 

لذلك نبدأ مع الدكتور العبادي من أول السطر. بدلا من السؤال المفكوك: من أنت؟ نسأله السؤال المتهوم: من أين؟ وكيف وصلت لعمان؟ ونتركة يتسلسل بذاكرة الحواس الخمس، وبموهبة لغوية وعقل استقصائي كان يمكن ان يجعل منه صحفيا وازنا.

 

من عيرا ويرقا

 

أنا عبادي من عيرا ويرقا. ولقدومي إلى عمان قصة تروى:

 

حصلت حادثة قتل في البلد مما تسبب بترحيل الناس عن مناطقهم، وهي الجلوة العشائرية، برحيل أو ترحيل لأهل الجاني حتى الجد الخامس من المنطقة التي يسكنها إلى منطقة بعيدة عن أهل المجني عليه، حفاظا على أرواح وممتلكات أهل الجاني وعدم وقوع تداعيات تعمق المشكلة، خصوصا في الساعات الأولى من وقوع الجريمة، حيث تسمى هذه الساعات عند القبائل والعشائر بـ «فورة الدم»، التي تستوجب تهدئة النفوس عند أهل المجني عليه. جدي ذهب إلى الكرك بالبداية ثم أتى إلى عمان إلى أن توفاه الله فيها، وبقي والدي يسكن في عمان حيث ولدت فيها، وكانت الجلوة بالنسبة لي ذات أهمية بترتيب مستقبلي.

 

سكنّا راس العين

 

ومنذ قدوم والدي إلى عمان سكنّا في مناطق فقيرة في راس العين ولا أحد يستطيع تصور هذا المجتمع الصغير الذي عشت فيه.. كان بجانبنا جيران من اللد، من عائلة العرموطي، ومقابلنا من عائلة القطيشات، ومن الناحية الأخرى عائلة السعودي، والعقيلات وعائلات من السلط وغيرها من الحوارنه «نسبة الى حوران»..الخ.. هذا كان مجتمعنا.

 

أيضاً أذكر من جيراننا عبدالرحمن منيف وعائلته. فالحي حيث سكنا خلية مجتمع عروبي، وهو المجتمع الذي تربيت فيه.

 

في فترة الخمسينيات كان الأستاذ البعثي يدخل ويحدثنا عن مبادئ حزب البعث والأستاذ الشيوعي عن الشيوعية، ومثلهم الاساتذة الإسلاميون وغيرهم من الاحزاب. ففتحنا أعيننا على القضايا السياسية مبكرا جدا، مع المجتمع حولنا الذي كوّن جزءا كبيرا من شخصيتي العروبية، ما جعلني أفكر بنهج مختلف، لا يساري ولا إسلامي، بل اتجاه قومي. هذا هو المجتمع الخليط منذ وعيت عليه وما زلت أعيشه ليومنا هذا.

 

فلحة وأمّونة

 

التلاحم الذي عشته بين الجيران كان غير طبيعي. أذكر انه كان مقابل بيتنا منزل عائلة، تسكنه سيدة سمراء البشرة اسمها فلحة متزوجة من شخص مغربي جاء من بلاد الشنقيط. بعد ان أنهيت «الميترك» لا بد من متابعة دراستي الجامعية. كان ذلك في الستينيات. فسألت فلحة أمي عندما رأتها حائرة قلقة على غير عادتها. أجابتها أمي: نريد أن نرسل ممدوح إلى الجامعة لمتابعة دراسته ولكن لا يوجد معنا مال لارساله.

 

هذه القصة مع جارتنا فلحة، مضى عليها الكثير. وفي تشرين الأول الماضي (2020) جاءتني ابنتها واسمها أمونه الشنقيطي، فأعدنا الذاكرة للستينيات وأخبرتها بالقصة فقالت بأنها تتذكر بأن والدتها قالت لها آنذاك عن مكان في المخزن توجد به علبة طحين بداخلها قلادة ذهب، فأتت بالقلادة وأعطتها لوالدتي حيث باعتها بـ 36 ديناراً أردنياً ذهبت بها إلى جامعة اسطنبول.

 

هذا المبلغ الذي ذهبت به صرفته في أربعة أشهر. وكان الذهب الذي اخذته والدتي من فلحة دينا على أهلي حتى أدرس، وقاموا بسداده لاحقاً.

 

ما أريد قوله ان مجتمعنا آنذاك كان هكذا بتشكيلته المميزة، وهو مجتمع حقيقي وإخوان حقيقيون. مجتمع محافظ فيه من العزة والاخوة والكرامة ما نفتقده في حياتنا الآن.

 

الشيخ علي الطنطاوي

 

ما اختزنه الدكتور العبادي في ذاكرة حي راس العين، أشرطة بالأبيض والأسود تنطق لغة حميمة لم يبق منها سوى مُبتدأ بدون خبر. يقول:

 

بعد ظهر ذات يوم، فتحت الراديو وإذ ببرنامج ديني في إذاعة دمشق، يُبثّ بعد الصلاة، للشيخ علي الطنطاوي. استمعت إليه، ومن خلال حديثه روى قصة، وقال في نهايتها أنها موجودة في كتابه المسمى «سير من التاريخ».

 

كان عمري وقتها 10 أو 12 سنة، فذهبت من رأس العين إلى مكتبة الشباب التي ما تزال موجودة لغاية اليوم في شارع الهاشمي. سألت البائع عن الكتاب فقال ان ثمنه 6.5 قروش. لم يكن معي هذا المبلغ. وفي المساء فيما انا جالس مع والدي أخبرته بأنني أريد 6.5 قرش لشراء كتاب الشيخ الطنطاوي وأخبرته بالقصة، فقال لي بأن أدرس دروسي فقط وكتبي المدرسية، ولم يعطني المبلغ. فجعلتُ أوفر لأشهر حتى وصل المبلغ إلى 5.5 قرش، وبعدها ذهبت إلى جدتي وأخبرتها بأنني أريد قرشا واحدا، وكانت جدتي تربي الدجاج، فأعطتني بضع بيضات وقمت ببيعها واشتريت الكتاب.

 

ما زلت مستغربا كيف انني في السنة الثانية بالجامعة كنتُ أراسل مجلة العربي الكويتية، وكانت أهم مجلة، حيث نشرت لي المواضيع التي كتبتها باسم «الطالب ممدوح العبادي- اسطنبول»، ومنها موضوع الدعاية الصهيونية في تركيا.

 

هذا الجو جعلني أصبح سكرتيرا لرابطة الطلاب العرب، وكنت في الـ 21 من عمري.. لقد عشنا أجواءً سياسية بعمق خلال دراستنا الجامعية، و بشكل غير طبيعي.

 

طبيب بكلفة 550 دينارا

 

لم يكن والدي يقرأ ولا يكتب، وكنت أكبر إخوتي. ولأن والدي ولد في عمان فقد عرف مدى قيمة التعليم. كان متحمسا جدا ليعلمني، وما ساعده أنني تلميذ ممتاز في المدرسة. كان التعليم في تلك الأيام أفضل استثمار في الحياة.

 

وعدت طبيبا فقال لي بأنه صرف عليّ خلال دراستي 550 ديناراً، وهذا المبلغ حصلت عليه من راتب خمسة شهور، وهو ما صرفه والدي عليّ في خمس سنوات. نعم كان التعليم استثمارا حقيقيا، من يصبح طبيبا يرفع مكانة عائلته ويصرف عليها وتكون أموره ممتازة، لذلك من كان لديه فرصة للتعلم في تلك الأيام رفع من شأن عائلته إذا كانت بسيطة أو متوسطة الحال، وهذا الذي جعلني أذهب للدراسة.

 

بين الهندسة والطب

 

كنت جيد جداً في مادة الرياضيات، وكان والدي يريد أن أصبح مهندسا. رغبت الذهاب إلى القاهرة لدراسة الهندسة. وبالصدفة التقيت صديقا لي في الشارع قال لي بأن الهندسة في تركيا أربع سنوات، وفي مصر يجب أن تدرس التوجيهي المصري أولا وبعدها خمس إلى ست سنوات دراسة الهندسة. فذهبت إلى تركيا، وعندما وصلت وفي نيتي دراسة الهندسة علمت انه لا بد من اجتياز فحص باللغة التركية لدخول كلية الهندسة، والفحص بعد أسبوع أو أسبوعين، و لم أكن أعرف اللغة التركية، فقررت بأن أعود للأردن. وفي الأثناء وجدت شخصاً نصحني بأن أسجل في كلية الطب وإذا لم أفلح في التسجيل بها عندها أعود للأردن.

 

قمت بالتسجيل بكلية الطب صدفة، وتم قبولي حيث كانت علاماتي ممتازة، وساعدني في ذلك أحد الأساتذة الموجودين وكان من فلسطين، مع أنني لم أكن أحب الطب. أرسلت برقية لوالدي بما حصل معي فتضايق لأنني لم أستطع التسجيل في كلية الهندسة، لكنه استسلم للواقع وقال لي: (الخيرة فيما اختاره الله).

 

المجتمع في الجامعة كان عروبيا، حيث كان لدينا رابطة الطلاب العرب في الستينيات، وعدد المنتسبين إليها يعادل ألف طالب، عراقيين وسوريين وفلسطينيين وليبيين ولبنانيين..الخ. الجو سياسي كان يتوزع ما بين بعثيين وشيوعيين وإخوان مسلمين.. الخ، وبعدها انخرطت في تلك الأجواء، لخلفيتي منذ كنت طالبا في المدرسة علما أنني لم أنتم لأي حزب في حياتي، لكن الجو حولي كان جوا سياسيا.

 

من المعلمين اثناء دراستي أذكر ان صلاح الخفش كان بعثيا، وسليمان جريس حنا شيوعيا، وراتب مهيار تحريريا. وكان توجهي عروبيا. قوميا. فلسطينيا، ولم أغير لغاية الآن.

 

المطبخ التركي

 

منذ بدأت دراستي الجامعية، وكما قلت، انتخبت سكرتيرا لرابطة الطلاب العرب فكانت علاقتي مع اتحاد الطلبة التركي علاقة مميزة، نحضر ندوات بعضنا ونتبادل الزيارات، وفي بعض المواقف السياسية كنا نساعدهم ونساعد الطلبة الإيرانيين أيضاً ممن كانوا يدرسون في تركيا.

 

على المستوى الشخصي كانت العلاقة ممتازة وحميمية. تركيا من أجمل بلاد العالم، كطبيعة وتاريخ وآثار. وجوها وتراثها كما والحرية الاجتماعية منقطعة النظير. كل هذا شجعني بأن أبقى في اسطنبول، وما ساعدنا أننا كنا ننهمك في العمل السياسي بالرابطة مع طلاب عرب ،وبقينا نتواصل مع بعضنا البعض لعشرات السنين وهي من أجمل سنوات العمر.

 

بالنسبة للطعام، فالمطبخ التركي قريب من المطبخ العربي، وأصله مطعم يوناني جاء إلى الدولة العثمانية وانتقل إلى بلاد الشام ثم انتقل إلينا. هكذا أصله، وهناك أكلات شعبية مختلفة بيننا وبينهم مثل المنسف والمقلوبة والمسخن لكن باقي الطعام متشابه.

 

الم تفكر الارتباط بفتاة تركية؟

 

لا.. لم أفكر إطلاقاً، بسبب أن إمكانياتي المادية لم تكن تساعد، فكانت علاقتي بالفتيات علاقة زمالة داخل حرم الجامعة فقط.

 

أما زال أقاربك يعيشون في عيرا ويرقا؟

 

نعم، وكانوا وأنا صغير يزوروننا في عمان. و ساعد في ذلك أن والدتي من نفس البلد، فأمي من عيرا ووالدي من يرقا، العلاقة لم تنقطع بيننا أبداً.

 

حياتك في عمان ألغت طقوسك أو بعض الذي تربيت عليه؟

 

لم أتغير أبداً، وكأني أعيش في عيرا ويرقا. حظي بأنني عام 1971 تزوجت عبادية، وكان زواجنا تقليديا، رأيتها لأول مرة في منطقة الغور مع أهلها وكنت أعرف والدها وهم من سكان جبل اللويبدة.

 

أما طقوس زواجنا فقد أقمنا حفل زفافنا مثل الأعراس اليوم، في راس العين قمنا بعمل غداء (مناسف)، وبعد الظهر كانت هناك حفلة في نادي الضباط بالزرقاء، ومنه ذهبنا عبر مطار ماركا إلى لندن للتخصص.

 

الدراسة في بريطانيا جادة وصعبة والحياة فيها جميلة. النظام يسود في كل شيء، وهذه الأمور جديدة بالنسبة لنا ومختلفة بالنسبة لي عن الأردن وتركيا.

 

في بريطانيا ولأنني طبيب أعطوني «فيلا»، وكانت المرة الأولى التي أرى فيها منزلا في طابقه الأسفل صالات وغرف النوم في الطابق الثاني.

الراي-ملك يوسف التل