نحو سياسة واقعية عقلانية وإنسانية

3 ديسمبر 2020
نحو سياسة واقعية عقلانية وإنسانية

د. عادل يعقوب الشمايله

اكاد ان اجزم، بأنه لا يوجد بريطاني واحد يعتقد، أنً على بريطانيا، ان تستعيد مستعمراتها التي كانت قد ربحتها عسكريا من الشعوب التي غُلبت على أمرها ثم تحررت. مثلا ان تستعيد بريطانيا امريكا والاردن والهند.
بالمقابل، لا زال معظم العربان، جاهلهم ومتعلمهم، متدينهم، وعلمانيهم، يعتقدون انه يجب السعي لاستعادة الاندلس، واسبانيا التي احتلها العرب ثم أُخرجوا منها قبل مئات السنين. اي أنهم يحلمون بالغاء دولتي اسبانيا والبرتغال، معتبرين وجودهما باطل وانها قوى احتلال.
كانت بلغاريا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا وبلاد الصرب والبلقان محتلة من الاتراك العثمانيين. ثم خسروها في الحرب العالمية الاولى واصبحت دولا. وبالمثل، سيطر الاتحاد السوفيتي على كافة شعوب اوروبا الشرقية، بعد الحرب العالمية الثانية، الى أن تحلل الاتحاد السوفيتي واستقلت تلك الدول.
في هذه الاونة، تحلم تركيا ارذوقان بأن تتمكن من اعادة احتلال تلك الشعوب، كما تعمل، وليس فقط تحلم، لاستعادة ليبيا وسوريا وشمال العراق، وتونس والسودان والحجاز.
هؤلاء العربان والاتراك ينكرون على اليهود ان يحلموا مثلهم في استعادة فلسطين، الارض التي اعطاها الرب لابراهيم ثم يعقوب “اسرائيل” ثم موسى وقبائل بني اسرائيل التي خرجت من مصر صوب فلسطين بطلب من الرب كما جاء في التوراة والقرآن. ولأن بني اسرائيل رفضوا دخول فلسطين عنوة، كما امرهم الله فقد عوقبوا بالتيه في الصحراء خمسين عاما، لأنهم قالوا لموسى” إذهب انت وربك فقاتلا اننا هنا قاعدون” .
فلسطين، التي على ارضها نشأت معظم اساطير التوراة. يريد العربان وغالبية المسلمين ان ينسى اليهود دينهم الذي يأمرهم بالعيش والتعبد لله فيها، وأن يكفروا بأوامر الرب ويتركوها للكنعانيين المعاصرين، على الرغم من أن الله قد امر اليهود بمقاتلة الكنعانيين السلف والاستيلاء على فلسطين منهم. ونعى على اليهود جبنهم وترددهم، لرفضهم القتال والاستيلاء عليها “يا قوم ادخلوا الارض المقدسة التي كتبها الله لكم”. لماذا؟ لأن مشايخ المسلمين الجهلة قرروا من ذات انفسهم ان الديانة اليهودية باطلة وان القرآن مهيمن عليها بمعنى أنه يلغيها.
مع ان معنى كلمة “مهيمن” حسب تفسير الطبري هو:
وقوله : ( ومهيمنا عليه ) قال سفيان الثوري وغيره ، عن أبي إسحاق عن التميمي عن ابن عباس أي : مؤتمنا عليه . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : المهيمن : الأمين ، قال : القرآن أمين على كل كتاب قبله . وروي عن عكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحمد بن كعب وعطية والحسن وقتادة وعطاء الخراساني والسدي وابن زيد نحو ذلك .
يقول عز وجل( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق “مصدقا” لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة”، “ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون” ( 48 ) سورة المائده.
“وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله” الايه ٤٣ من سورة المائدة. ” وليحكم اهل الانجيل بما انزل الله. ومن لم يحكم بما أنزل الله فاولئك هم الفاسقون”. الايه ٤٧ من نفس السوره.
تبين الايات، أن القرآن جاء مصدقا لما قبله من الكتب المنزلة وليس مكذبا لها. كما تبين ايضا ان الله قد جعل لكل من اتباع الديانات الثلاث شريعته ومنهجه. وتضيف الايات، ان لو شاء الله لجعل اهل الكتاب او الناس جميعا امة واحدة. لكنه لم يشأ ذلك. لماذا؟ الجواب: ليتسابق الناس جميعا وخاصة اهل الكتاب في الخيرات حسب الاية القرآنية. لنتسابق جميعا بغض النظر عن الواننا والسنتنا وطقوسنا في عبادة الله وطاعته كل حسب ثقافته، ولنتسابق في عمارة الارض لا تخريبها، لنتسابق في خدمة الانسانية وتخفيف معاناتها ومآسيها، لا ان نتسابق على الشر والحروب وأن يجتث بعضنا بعضا. أن نتسابق في الاكتشافات والاختراعات. ان نتسابق في العلوم والتكنلوجيا والفلسفة والشعر والادب والفنون. أي نكتشف طاقتنا ومواردنا الانسانية والطبيعية، ونستثمرها ونفعلها، لنعيش حياة افضل. لان ليس المهم ان تحيا، بل نوعية الحياة.
لذلك، اذا كنا نريد ان نتمسك باساطيرنا الدينية، وبشهوة السيطرة على الاخرين، فإن علينا ان نعلم ان للاخرين اساطيرهم واحلامهم.
اكتب هذا لابين، أن السياسة الواقعية، تتطلب معرفة، والاعتراف، بثوابت الاخرين، وما يقدسون. وان نقنع أنفسنا انهم مستعدون للتضحية والقتال من اجلها، كما نضحي ونقاتل من اجل ثوابتنا وما نقدس. وإلا كنا كالنعام. وأن الاجدر، عدم التفتيش عن اعداء، بل الاجدر السعي للتعايش والتعاون والسلام، لأن هذا هو الترجمة الحقيقية لارادة الله.
ارجو، ان لا يُستنتج مما كتبت انني اعطي قوشانا بفلسطين للصهاينة. أو انني أُنكر على الفلسطينيين حقوقهم التاريخية والمادية. بل التنبيه، أن عدم فهمنا للدين، بسبب تلقيه ممن لا يقرأون، وإن قرأوا لا يفقهون، فيه وبال علينا. فالقرآن الذي نزل على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قبل نشوء الصراع العربي الاسرائيلي على فلسطين بالف وثلاثمائة عام، لا يأخذ جانبنا في الصراع. وهو حجة علينا وليس حجة لنا. كما أن علي أن أُذكر أن ليس كل اليهود صهاينه. لذلك، فالأقوم ان لا ندفع بالمزيد من اليهود المعتدلين والمعارضين لانشاء دولة اسرائيل، الى خيمة الصهيونية ونزيد بالتالي من قوة اسرائيل. بل العكس هو الصحيح، العمل على تقليص مساحة العداء، من خلال فهم الغير، لا من خلال دروس المنابر، بل من المصادر الصحيحة والمحايدة والعقلانية الهادئة، وأن نحترم معتقادتهم وثقافتهم وحقهم في الحياة الكريمة. ليس اليهود فقط، ولكن جميع الناس الذين هم مخلوقات الله، والذين قال عنهم من خلقهم ” ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر”. اي اعطيناهم وسائل الحركة والانطلاق والانتشار والتحرر من قيود المكان والزمان، واعطيناهم ارادة الحركة والرغبة فيها.
الجميل في الاية القرآنية، الذي لم يتفهمه ويعيه معظم من قرأها، هو ” الى الله مرجعكم فينبأكم بما كنتم فيه تختلفون”. أي أن الله لم يرغب في حسم الخلاف بين الناس. لم ينتصر لثقافة على اخرى، بل ترك الثقافات تتفاعل طيلة الحياة الدنيا، واحتفظ الله لنفسه بالحكم على الاختلافات. اذا الاصل هو الاختلاف. تلك هي ارادة الله ومشيئته. وكل من يريد ان يفرض دينه او مذهبه او رؤياه على الاخرين فهو خارج على ارادة الله.