الأردن والدولة العميقة

2 ديسمبر 2020
الأردن والدولة العميقة

 

أ. د أنيس الخصاونة

“الدولة العميقة” مصطلح يستخدم للإشارة إلى تلك المؤسسات، والسلوكيات، والضوابط الضامنة لاستمرار النظام السياسي في الدولة .وهو في هذا المعنى قد يستخدم للتدليل على نظام سياسي سيئ أو نظام سياسي جيد أو نظام سياسي ديمقراطي أو نظام دكتاتوري مستبد على حد سواء.

 

ففي الحالة المصرية على سبيل المثال لم يتغير النظام السياسي بانتخاب الرئيس المصري محمد مرسي حيث بقيت أركان النظام السابق ومؤسساته التشريعية والتنفيذية والقضائية والعسكرية والأمنية بقيت على حالها ، وما لبث أن استعاد النظام اتزانه وسويته بعد انقلاب السيسي على الرئيس المنتخب ، وهذا ما يدفعنا للقول بأن الديمقراطية كانت حدثا طارئا على النظام المصري اهتز له وفقد اتزانه لفترة مؤقتة وما لبث النظام القديم أو بمعنى آخر الدولة العميقة وأن استعادت توازنها وقوتها. وعليه فإن مصطلح الدولة العميقة في الحالة المصرية يؤشر لحالة الاستبداد والدكتاتورية وحكم الفرد الذي يسخر مجمل الأجهزة الرسمية وخصوصا الجيش والمخابرات والقوى الأمنية للهيمنة على الشعب والسيطرة على مقدراته. أما في الحالتين العراقية والتونسية فإن الدولة العميقة اهتزت أركانها وتم اقتلاع نسبة معتبرة من قواعدها وجذورها حيث تغيرت قواعد اللعبة السياسية، وتم اعتماد دستور جديد ينظم العلاقة بين الفرق والكتل السياسية من جهة وبين الدولة ومواطنيها من جهة أخرى، وقد تم العمل بأنماط جديدة من العمل السياسي والتشريعي والحزبي وغيرها.أما في الحالة الأمريكية فقد كانت سلوكيات الرئيس ترامب وخروجه عن تقاليد أمريكية راسخة وطعنه في نزاهة الانتخابات الرئاسية وتعنته في قبول نتائجها كل هذا كان عملا طارئا ما لبث وأن استعاد النظام الأمريكي الديمقراطي اتزانه وأجبر ترامب على قبول النتائج .

 

يا ترى من يمثل الدولة العميقة في الأردن؟ وهل تتجسد الدولة العميقة بالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية حسب منطوق الدستور الذي يؤكد على الولاية العامة للحكومة ممثلة برئيسها مع خضوع هذه الحكومة أو السلطة التنفيذية لرقابة السلطة التشريعية المنتخبة من الشعب؟

 

وما دور النخب السياسية الأردنية من أحزاب أو كتل أو شخصيات سياسية وأكاديمية وعشائرية في المحافظة على الدولة العميقة؟ والسؤال الأهم هو هل ينظر الأردنيون إلى الدولة العميقة بطريقة إيجابية تدفعهم للحرص على استمرارها والمحافظة عليها أم أن لديهم خطابا مستترا ومشاعر سلبية نحو دولتهم العميقة؟ وهل يعتقد الأردنيون أن شخوصا بعينهم يمثلون الدولة العميقة ويذودون عنها أم أن لهؤلاء قولا ورأيا آخر عندما يتحدثون لأنفسهم عن الدولة العميقة؟ وهل لأصحاب المصالح(Interest groups) وأصحاب رؤوس الأموال والشركات والبروجوازيين والمقاولين والنقابات المهنية وأصحاب العرصات والعقارات والحيتان والفاسدين ووجهاء العشائر هل لهؤلاء دور في المحافظة على الدولة العميقة ومنع أي تحولات أو إصلاحات يمكن أن تهدد مصالحهم؟

 

نعتقد بأنه على الباحثين في جامعاتنا ومراكزنا البحثية أن يتناولوا في بحوثهم اتجاهات المواطنين الأردنيين نحو دولتهم العميقة ،وفيما إذا كانوا ينظرون باحترام واعتزاز لهذه الدولة العميقة، أم أنهم ينظرون بوجل واستفهام وشك حول مراكز القوة في الدولة العميقة ومن يحركها ويحدد بوصلة اتجاهاتها وعلاقة ذلك بقوى خارجية وإقليمية.

 

بعض الأردنيين يعتقدون بأن الدولة العميقة لا تتمثل بالأجهزة التشريعية والتنفيذية وأن دائرة المخابرات العامة والقوى الأمنية والديوان الملكي تشكل قطب الرحى في الدولة العميقة في الأردن ، وهي التي توجه معظم النشاطات الرئيسية في الدولة ، وتسهم في صياغة ذهنية واتجاهات وولاءات النخب السياسية بطريقة تضمن المحافظة على أركان النظام وقواعد اللعبة السياسية في الوقت الذي يتم فيه تحوير وتحريف مسارات واتجاهات الإصلاح السياسي بطريقة تحول دون حصول تحولات سياسية ديمقراطية حقيقية يلمس الأردنيون نتائجها على الأرض.

 

أخيرا نأمل بأن يكون مفهوم الأردنيين عن الدولة العميقة في بلدهم مفهوم إيجابي وإن كنا نشك بذلك لحين إجراء دراسات وبحوث حول هذا الموضوع من باحثين وجهات بحثية مستقلة بعيدة عن التسحيج والممالئة والتزلف لأولي الأمر. مفهوم الأردنيين عن الدولة العميقة يتأثر بخبراتهم وتصوراتهم ومعاناتهم ومظلومياتهم ومعاناتهم وإحساسهم بالعدالة من حيث توزيع الدخول والامتيازات والعطاءات والمنح والعلاج والبعثات والمناصب القيادية والسفارات والأعيان ورئاسات الجامعات .

 

الدولة العميقة ليس مفهوم طارئ وإنما هو حالة ذهنية وإحساس تراكمي متعلق بممارسات وخبرات الأردنيين مع محكمة أمن الدولة ،والديوان الملكي ،ودائرة المخابرات العامة ، ووزارة الداخلية ، والمراكز الأمنية ، ووزارة الخارجية ، ووزارة التعليم العالي وغيرها من المؤسسات. مفهوم الدولة العميقة هو ما يختزنه الأردنيون في عميق مشاعرهم عن عدالة نظامهم السياسي ، وعن تكافؤ الفرص بينهم أفرادا ومناطق وأحياء سكنية وريف وبادية ومخيمات، وعن إحساسهم بأن ممارسات وسلوكيات ومواقف حكوماتهم ونظامهم السياسي من القضايا الداخلية والخارجية تمثل وجدان الأغلبية الساحقة من المواطنين … الدولة العميقة التي يدافع عنها الناس ويفتدوها بالمهج والأرواح هي تلك التي تستند إلى إرادة الشعب، وتحترم الحريات العامة،وتعزز المشاركة السياسية ، والمساءلة العامة ، وتتخذ إجراءات حقيقية وجادة للضرب بيد من حديد ،لا من حرير ،على أيدي الفاسدين